غزة/ البوابة 24- أحلام عبد القادر:
من بقايا المنازل المهدمة، ومن خيام متهالكة، لا تزال تسمع زغاريد فرح، ولكنها خافتة وليست صاخبة كما الماضي، غير أنها تقول بلا كلمات إن الغزيين قادرون على النهوض من بين الرماد والركام، يتحدون الألم والموت، وأن غزة جارة البحر، لا تغرق ولا تموت، وتبقى جديرة بالحب والحياة.
والدمار في غزة ليس نهاية، ولكنهما كرحم خصب تولد منه بدايات جديدة. هذه المدينة جريحة وتتألم بفعل حرب إبادة دموية ومدمرة وغير مسبوقة، لكنها تعرف كيف تصنع الحياة على طريقتها الخاصة، ولا تطيق فراق الفرح طويلا. وفي مشاهد سريالية غزية، لم توقف مواكب تشييع الشهداء مراسم الزفاف والزواج، حتى وإن توارت كثير من الطقوس وانحنت إجلالا للدماء.
مواجهة الموت بالزواج
في غزة، الزواج ليس مجرد فرح، إنه إعلان تحد للموت، وتمرد على الظروف القهرية، وداليا (21 عاما) واحدة من "عرائس الحرب"، وتقول للبوابة 24 إنها وابن عمها محمد (24 عاما) تمت خطبتهما قبل اندلاع الحرب بشهر واحد فقط، وكان يفترض أن يتزوجا في صيف العام 2024.
حينذاك لم يعد قرار الزواج بيد داليا ومحمد، وذهبت مخططاتهما وأحلامهما لما تصفها بـ "ليلة العمر" أدراج النزوح، عندما اضطرا مع أهالي مدينة رفح في جنوب قطاع غزة إلى النزوح القسري عن المدينة، الخاضعة منذ اجتياحها في 6 مايو/أيار من العام 2024 لاحتلال كلي ومستمر.
خسر محمد "عش الزوجية"، بدمار شقته السكنية الصغيرة في منزل أسرته، الذي حولته غارة جوية إسرائيلية إلى أنقاض وحجارة متبعثرة في حي تل السلطان غرب مدينة رفح.
وعندما طال أمد النزوح عن مدينة رفح، تقول داليا: "دمروا شقتنا، لكنهم لم يدمروا إرادة الحياة فينا"، وتشير بذلك إلى قرارها ومحمد أن لا يستسلما لليأس والحزن، ووافقتهما أسرتيهما، وتزوجا في خيمة بمنطقة المواصي غرب مدينة خان يونس.
ولا تخفي داليا أن القرار كان مؤلما، لأنها به تخلت عن أحلامها بارتداء الفستان الأبيض، وأن تعيش ليلة زفاف تبقى محفورة في ذاكرة أي عروس، وأن يكون لها بيتها وخصوصيتها، وتقول إن "ما يؤلمني أكثر أنني لا أعلم متى تنتهي حياتنا البائسة في هذه الخيمة، ومتى تبدأ عملية اعمار منازلنا المدمرة، ونستعيد ولو القليل من حياتنا السابقة".
أحلام مبعثرة
وحكاية داليا وعريسها محمد تشبه حكاية مماثلة بطلتها زهراء (22 عاما) وعريسها أحمد (21 عاما)، وهما من حي الشجاعية شرق مدينة غزة.
تقول زهراء للبوابة 24 إنها خطبت لأحمد قبل اندلاع الحرب بأسبوعين، وحينها بدأت بنسج أحلامها، وتخيل نفسها بالبدلة البيضاء في صالة أفراح كبيرة ومن حولها الصديقات والأقارب، لتأتي الحرب كموج هادر جرف قلعة من رمال لطفل يلهو على شاطئ البحر.
استشهد شقيق أحمد، واجتاحت الدبابات وآليات الاحتلال حي الشجاعية واضطرت زهراء وأسرتها مع أهالي الحي إلى النزوح، والتنقل من مكان إلى آخر في مدينة غزة، ورفض النزوح جنوبا، وكذلك فعل أحمد، فيما أسرته نزحت جنوبا.
كان لذلك وقعه على زهراء وأحمد، وعانيا النزوح والجوع والتشتت، وتقول زهراء: "إضافة إلى هذه المعاناة كنت دائمة القلق على أحمد، وقد حاصرتنا قوات الاحتلال في مدينة غزة، ومنعت عنا سبل الحياة، وعانينا من التجويع، وسوء خدمات الاتصالات والانترنت".
ووجدا في الزواج خيارا للبقاء معا، وتقاسم "اللقمة والخوف معا"، وحسبما تقول زهراء فإن أحمد كان متمسكا في بدايات الحرب وإثر استشهاد شقيقه ونزوح أسرته بأن نتزوج بعد توقف الحرب وعودة أسرته، غير أن الحرب طالت وظروفها فرضت علينا زواجا بلا طقوس.
عندما نزحت زهراء من حي الشجاعية تركت ما يعرف بـ "جهاز العروسة" من مصاغ ذهبي وملابس وأدوات زينة وغيرها من مستلزمات لعروسة، وقد هرستها صواريخ الاحتلال ودباباته مع تحت أنقاض المنزل.
"الحرب أبادت حلمي"، بألم يعتصر قلبها تتحدث زهراء عن تجربتها كفتاة مقبلة على حياة زوجية جديدة، وخسرت كل شيء في "لحظة غادرة"، ولم يعد الزواج آنذاك أولويتها وإنما النجاة من الموت.
بثوب فلسطيني بديلا عن بدلة الزفاف البيضاء زفت زهراء إلى عريسها أحمد، الذي اجتهد أن يصنع لها فرحة خاصة لا تحجبها سحب الدخان المنبعثة من الانفجارات وحركة آليات الموت والدمار، وجهز "وليمة" من الأرز غابت عنها اللحوم الممنوعة إسرائيليا في زمن القتل بالنيران والتجويع.
أسبوع واحد فقط قضته زهراء وعريسها أحمد في شقة بالايجار في حي الرمال بمدينة غزة، قبل أن يجبرا على النزوح نحو حي الشجاعية، إثر الهجوم العسكري الإسرائيلي الكبير على الحي ومحيط منطقة مستشفى الشفا.
ولم يطل بهما المقام في حي الشجاعية حتى اضطرا إلى النزوح مجددا، بملابس تستر جسديهما فقط، وقد نجوا في الموت بأعجوبة، وتتساءل بقهر: "هل يعقل أن كل هذا الألم عشته في الشهر الأول من زواجي الذي يسميه العالم شهر العسل؟".
ولماذا لم تصبر زهراء وأحمد على الزواج حتى انتهاء الحرب؟، يجيب والد العروسة البوابة 24 بأن "كنا نفكر في ذلك بداية الأمر، ولكن كانت ظروف الحرب أقوى من الانتظار .. زهراء تعيش قلقا دائما على أحمد، وهو وحيد وأسرته نازحة في الجنوب ولا يجد مكانا أو طعاما، ويتنقل بمفرده من مكان إلى مكان".
في زمن الحرب تتحول تفاصيل الحياة الصغيرة إلى استثناء، وحتى الموت والزواج، بلا مراسم، وكما سرقت الحرب حتى الدمع والحزن على الميت، سرقت منا فرحة اللحظة التي ينتظرها الأهل طويلا لزواج ابنهم أو ابنتهم.
ويوافق أحمد هذا الرأي، وله تجربة حزينة يقول للبوابة 24 إنها ستلازمه لبقية حياته ولن تشفى منها ذاكرته، حيث فقد شقيقين الأول قبل زواجه والثاني بعد شهر واحد من زواجه، ولم يحظ بفرصة للحزن عليهما، أو لوداعهما وإقامة سرادق عزاء لهما.
"وفي زواجي كانت الفرحة صامتة خجولة أمام حزني على ما فقدت، والحزن الكبير الذي اجتاح كل زاوية وحارة ومنزل في قطاع غزة"، يضيف العريس المكلوم.
دوافع اقتصادية
عبد الله ونور، شقيقان في بداية العقد الثاني من عمرهما، وهما من أسرة متوسطة الحال، أجبرت على النزوح القسري من مخيم الشابورة في مدينة رفح عشية اجتياحها في مايو/أيار عام 2024.
وتقول والدتهما، نسرين للبوابة 24 إنها وزوجها وجدا أن ظروف الحرب مناسبة لزواج عبد الله (22 عاما) وشقيقه الأصغر نور (20 عاما)، لانخفاض تكاليف الزواج من مهور، وغياب شروط مرهقة لذوي العروس كالذهب وحفلة الخطوبة وصالة الزفاف والبدلة وجهاز العروسة، وحتى تجييزات منزل الزوجية.
اختارت نسرين لنجليها عروستين من أسرتين نازحتين من مدينة رفح، تشير إلى أنها تعرف أسرتيهما، وتتوافق معهما من حيث المستوى المعيشي والظروف الاقتصادية، وتم الزواج بمراسم بسيطة وغير مكلفة ماديا.
ارتدت العروسان ثوبين فلسطينيين، وفي ساحة مخيم للنازحين بمدينة خان يونس احتفلت الأسرتان وعدد محدود من الأقارب والأصدقاء بالعرائس، وتوضح نسرين أنها أقامت لكل عروس منهما خيمة بجوارها وجهزتها بالقليل من الفراش وأدوات الطهي.
ولا تتجاوز أعمار العروسين العشرين من عمرهما، وبحسب نسرين فإن كثير من الأسر التي تعرفها تفضل "سترة" بناتها، والدفع بالبنت في كنف رجل يتحمل مسؤوليتها، بفعل حرب أثقلت كاهل الآباء، الذين فقدوا مصادر دخلهم ومدخراتهم، ولم يعودوا قادرين على تحمل الاحتياجات الأساسية لأسرهم.
ومضى على زواج عبد الله ونور ستة شهور، ويقولا للبوابة 24 إنهما سعيدين في حياتهما الخاصة، وباتا أكثر تحملا للمسؤولية، وتعاونا سويا في إقامة "بسطة" صغيرة لبيع مواد غذائية، تدر عليهما دخلا يوميا يكفي لإعالة زوجتيهما.
ودفعت الاوضاع الاقتصادية التي خلفتها حرب الإبادة الأهالي إلى إلغاء كثير من إجراءات إتمام الزواج واقتصارها على الطقوس والعادات الأساسية، وفقا للمختص الاقتصادي والاجتماعي رامي الزايغ.
ويقول للبوابة 24 إن طول مدة الحرب دفعت إلى تفكير الشباب والأسر في تزويج أبنائهم تأقلما مع الظروف الاستثنائية، لافتا إلى أن الاقتصار على طقوس بسيطة لم ينبع فقط من أسباب اقتصادية بل يتعدى ذلك إلى أسباب دينية ووطنية، وبدافع من الحزن العام.
ويعتقد الزايغ أن زواج الإناث قد يكون مرتبطا بعادات اجتماعية لدى الأهالي كالخوف من فوات قطار الزواج، أو دخول البنت سن العنوسة، وهناك سبب دفع بعض الأهالي إلى تزويج بناتهم وهو عبء النزوح وتكاليفه بشكل خاص وأعباء الحرب بشكل عام.
دوافع نفسية واجتماعية
وتقول مدير الصحة النفسية في جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني الدكتورة نيفين عبد الهادي للبوابة 24 "هناك غريزتان هما غريزة الحياة وغريزة الموت، والانسان يسعى جاهدا إلى التمسك بغريزة الحياة والبقاء، ومن هذا المنطلق يلجأ الناس في الحرب إلى الذهاب إلى الزواج للحفاظ على النسل والبقاء وخاصة في فئة الشباب لدى الجنسين وكذلك الحفاظ على التماسك الاسري خاصة أن هناك عدد كبير من الأرامل نتج عن استمرار حرب الإبادة".
وهناك دوافع متعددة تدفع الإنسان للإقبال على الزواج من كلا الجنسين والدافع هو رغبة داخلية لدى الفرد، ومنها دوافع نفسية واجتماعية، وهي وفقا لعبد الهادي:
- البحث عن الأمان والاستقرار العاطفي، فالإنسان يسعى إلى إيجاد شريك حياة يشاركه أفراحه وأحزانه، فالزواج يشعر الفرد بالانتماء إلى شخص آخر وبوجود شريك حياة يشاركه المعاناه وسط فوضى الحرب النفسية.
- إثبات الذات أمام الموت فالإنسان يبحث دائما عن الحياة والبقاء كبديل عن للموت وباقباله على الزواج والسعي اليه يثبت احتياجه إلى البقاء والحياة.
- الدعم النفسي المتبادل حيث أثبتت الدراسات أن المشاركة الزوجية في أوقات الحرب والازمات توفر دعما نفسيا متبادلا يساعد على الصمود في الظروف الصعبة، والزواج جسر أمان أمام الازمات وخط دفاع اول للحياة الزوجية.
- الحفاظ على عادات وتقاليد المجتمع الغزي، فكلنا يعرف أن المجتمع الغزي لديه مباديء وقيم دينية واجتماعية ويحاول الحفاظ عليها حتى في ظل الحروب ويقوم بالتشجيع على العفة والزواج المبكر، ويعد الزواج شكل من أشكال الحفاظ على الهوية الثقافية والدينية.
- ضغط المجتمع والعائلة، وبينما يعتبر الزواج تعبير عن التحدي والصمود، فإنه في جزء منه تخفيف من الضغوط الاقتصادية عن ذوي الفتيات، ويجدون في الزواج وسيلة للتخفيف من العبء الاقتصادي، خاصة مع غلاء الأسعار وكثرة النزوح.
- يعتبر الزواج في وقت الحرب تخفيف من الأعباء الاقتصادية للتي يكلفها الزواج من حيث المهر والصالة والتعفيش، وهذا ما يزيد الإقبال على الزواج.
- يعتبر الزواج استجابة نفسية واجتماعية مركبة تساعد على التمسك بالحياة وتخفيف من ضغوط الواقع وآلية دفاع جماعي ضد الخوف والدمار ورسالة بأن الإنسان قادر على اختيار الحياة حتى وهو يعيش في قلب الحرب والموت.
