في 20 نوفمبر عام 1979، شهد العالم طفرة علمية غير مسبوقة حين جرى لأول مرة نقل دم اصطناعي يعتمد على مركبات الكربون المشبعة بالفلور إلى جسم إنسان.
ورغم أن التجربة لم تتجاوز إطالة عمر المريض لساعات، وتسببت في أضرار خطيرة للكلى والدماغ، فإنها فتحت الباب أمام عصر جديد في محاولات تصنيع دم بديل يمكن الاعتماد عليه في الطب الحديث.
حتى اليوم، يظل الدم البشري هو الخيار الوحيد الموثوق، نظراً لتعقيده الهائل وقدرته الفريدة على أداء وظائف لا يمكن محاكاتها بالكامل.
منظومة حياتية معقدة
الدم ليس مجرد وسط ناقل، بل نظام بيولوجي معقد يتكون من بروتينات وأملاح وصفائح وكريات دم، وينقل الأكسجين والغذاء للخلايا، ويتخلص من الفضلات، ويحمل الهرمونات والأجسام المضادة، إضافة إلى آلية التجلط التلقائي عند الجروح.
أما الهيموجلوبين، فهو عنصر حيوي يوجد في كائنات متعددة وليس البشر فقط، بدءاً من الزواحف وحتى الطفيليات، لذلك فإن تصميم دم صناعي قادر على محاكاة هذه المنظومة يمثل تحدياً هائلاً أمام العلماء.
محاولات تاريخية جريئة
ترجع أولى المحاولات للقرن السابع عشر، عندما نجح الطبيب البريطاني ريتشارد لور في نقل دم كلب إلى آخر، وبعد سنوات، نقل الطبيب الفرنسي جان بابتيست دينيس دم خروف إلى مريض بشري، ثم دم غزال إلى كاهن دون نتيجة علاجية واضحة.
وفي 1795، جرت أول عملية نقل دم بشري موثقة في فيلادلفيا، تلتها عشرات التجارب البدائية التي مهدت الطريق لاستخدام الدم البشري في الطب الحديث.
لكن البحث عن البدائل وصل إلى مناطق شديدة الخطورة، إذ جرت تجارب غير مسبوقة كحقن مرضى بـ حليب الماعز أو حليب النساء ما أدى إلى وفيات وأزمات صحية حادة، كما جرت تجارب على دم الجثث نظراً لعدم تجلطه، لكن العوائق الأخلاقية والقانونية أوقفت هذه المسارات.

بداية المحاولات العلمية الحديثة
مع تقدم العلم، بدأت التجارب في الاعتماد على الهيموجلوبين المعزول وتجفيفه ومعالجته ليحاكي نقل الأكسجين، لكن تلك المحاولات أدت إلى فشل كلوي لدى القطط، وأضرار خطيرة لدى المرضى في تجارب عام 1949، مما حدّ من استمرار استخدامها.
ثورة الكربون المفلور
تغيرت الصورة في الستينيات حين اكتشف العالم ليلاند كلارك قدرة مركبات الكربون المشبعة بالفلور على حمل الأكسجين، جرت تجربة أول بديل دم صناعي من هذا النوع في السبعينيات بدواء "فلوسول دا 20"، واستخدم على آلاف المرضى الذين يرفضون نقل الدم لأسباب دينية.
رغم الاستخدام الواسع (أكثر من 40 ألف حالة)، إلا أن الدواء تسبب في مشكلات خطيرة مثل:
- السكتة الدماغية
- نقص الصفائح
- صعوبة التخزين
- التكلفة المرتفعة
مما أدى إلى وقف إنتاجه نهائياً في التسعينيات.

عصر الهندسة النانوية
توجه العلماء حديثاً إلى تقسيم وظائف الدم وتطوير بديل لكل وظيفة على حدة، واحدة من أبرز هذه التقنيات هي "إريثرومر" التي ابتكرها العالمان ديبانجان بان وفيليب سبينيلا، وهو بديل دم صغير على شكل دونات يحتوي على هيموجلوبين داخل جيوب نانوية، ويمتاز بـ:
- صلاحيته الطويلة
- سهولة تخزينه في درجة حرارة الغرفة
- إمكانية تفعيله بالماء
- توافقه مع كافة فصائل الدم
لكن ما يزال دوره مؤقتاً لساعات فقط قبل أن يحتاج المريض إلى دم حقيقي.
إلى جانب ذلك، يطور فريق جامعة ماريلاند بدائل للصفائح الدموية باستخدام هياكل بوليمرية نانوية تعزز التجلط، ويعمل فريق آخر بجامعة كارولينا الشمالية على جسيمات دقيقة تحفز تخثر الدم في الطوارئ.
التحدي الأكبر
رغم التقدم الهائل، تبقى المشكلة الأساسية في دمج هذه العناصر في سائل واحد يجمع كل وظائف الدم الطبيعي:
- نقل الأكسجين
- مقاومة الأمراض
- التجلط
- تنظيم الاتزان
- التخزين الآمن
ويعتقد العلماء أننا قد نحتاج سنوات قبل الوصول إلى دم اصطناعي شامل وكامل.
