غزة/ البوابة 24- إنعام فروانة:
في زمن الحرب، لا يقتصر الخطر على القصف والدمار، بل يمتد ليطال حياة الناس عبر شاشات هواتفهم وحساباتهم البنكية. وسط الحصار وانهيار البنية المالية في غزة، وجد مواطنون وصحفيون أنفسهم ضحايا لعمليات احتيال إلكتروني محكمة، استغلت حاجتهم الماسة للمال وانعدام الرقابة الرقمية.
حين يتحول طلب المساعدة إلى فخ رقمي
الصحفية خديجة مطر تروي تجربتها وتقول: نشرت على "فيسبوك" طلبًا للمساعدة، توضّح فيه حاجتها الماسة إلى سيولة نقدية دون أي عمولة، لأنها لم تكن تتحمل أن يُقتطع من المبلغ أي جزء، مهما كان ضئيلاً. كانت الحاجة ملحّة، والضيق شديدًا، لا يحتمل التأجيل أو الخسارة.
تواصل معها شخص تعرفه معرفة سطحية من قائمة أصدقائها على فيسبوك، وأبدى استعداده لتوفير المال فورًا، لكن بشرط أن تُحوّله إلى حساب بنكي لا يحمل اسمه. وعندما استفسرت خديجة بقلق عن السبب، برّر بأن حسابه مجمّد مؤقتًا ويضطر لاستخدام حساب آخر، إلا أن كلامه لم يكن مقنعًا ولا يبعث على الثقة. عندها اقترحت خديجة لقاء مباشر لتبادل المال وجهًا لوجه، لكنه رفض وأصرّ على أن يتم التحويل أولًا قبل اللقاء، ما جعلها أكثر ريبة وحذرًا.
حساب مخترق
خديجة اكتشفت أن من تواصل معها كان منتحلًا لشخصية تعرفها، وأن الحساب مخترق ويُستخدم للنصب على الصحفيين. تؤكد أنها لو صدّقت لكانت خسرت مالها وثقتها بالناس، مشيرة إلى أن زمن الحرب لا يسلب المال فقط بل يسلب الطمأنينة، وأن الوعي هو السلاح الحقيقي لمواجهة الخداع.
اتصال وهمي يسرق الرصيد البنكي
الممرض (م. ص.) من مدينة غزة فوجئ باختفاء رصيده البنكي بالكامل في حادثة وصفها بأنها ضربة قاسية، لأنه كان يعتمد عليه لتوفير أساسيات البقاء في ظل الأوضاع الحالية.
يقول إنه واجه صعوبة في الدخول إلى تطبيق البنك، فبادر بالتواصل مع خدمة العملاء وحصل على رمز جديد لتفعيل حسابه. غير أن الموقف تعقد لاحقًا حين تلقى اتصالًا من شخص مجهول قدّم نفسه على أنه موظف بالبنك، مدعيًا أنه سيساعده في حل المشكلة.
سلّم الممرض بياناته بحسن نية، فاستولى المحتال على حسابه وحوّل رصيده خلال دقائق إلى ثلاثة حسابات مجهولة. حاول تجميد الحساب لكن الوقت لم يسعفه، ما أتاح للمحتال استغلال الثغرة. لاحقًا بدأ البنك تتبع التحويلات وتجميد بعض الحسابات لاستعادة الأموال المسروقة.
الأزمات المالية تفتح الباب أمام الاحتيال الرقمي
وحول هذا الموضوع يقول سلطان ناصر جحا، خبير الأمن الرقمي، إن الحروب والأزمات تكشف هشاشة البنية الاقتصادية والاجتماعية في أي مجتمع، وتدفع الأفراد إلى البحث عن طرق بديلة وآمنة لتلقي الأموال أو المساعدات. وفي قطاع غزة، حيث تواجه البنية التحتية المصرفية قيودًا كبيرة، برزت العملات الرقمية – وعلى رأسها USDT – كمنفذ بديل للتحويلات المالية.
لكن هذا الواقع، وفق جحا، خلق بيئة خصبة لانتشار شبكات الاحتيال التي استغلت حالة الارتباك وانقطاع القنوات المالية التقليدية، وروّجت لعمليات تحويل رقمية تبدو آمنة في ظاهرها، لكنها تخفي خلفها مخاطر جسيمة. فالكثير من المواطنين لجأوا إلى هذه الوسائل نتيجة الأزمة، دون امتلاكهم المعرفة الكافية بأساسيات التعامل مع العملات الرقمية، ما جعلهم فريسة سهلة للمحتالين. وأضاف أن عمليات الاحتيال الرقمية غالبًا ما تكون غير قابلة للتتبع أو الاسترجاع، وهو ما يضاعف الخسائر ويزيد من هشاشة الواقع الاقتصادي.
تعطل النظام المالي
وأوضح جحا أن تزايد حالات الاحتيال الرقمي في غزة خلال الفترة الأخيرة يعود إلى عدة عوامل مترابطة، أبرزها تعطل النظام المالي التقليدي نتيجة توقف عمل البنوك أو تقييد نشاطها بسبب الحرب، ما دفع الناس إلى البحث عن بدائل سريعة وغير خاضعة للرقابة. كما أن قلة الخبرة في التعامل مع المحافظ الرقمية جعلت كثيرين يدخلون هذا المجال دون وعي بالمخاطر، بينما أدى تأخر الوعي المجتمعي بأمن التحويلات الرقمية إلى انتشار واسع لأساليب الخداع قبل أن يتمكن المستخدمون من إدراكها.
وأشار إلى أن ضعف المعرفة بالتقنيات الحديثة وأمن المعلومات جعل المستخدمين عرضة لهجمات إلكترونية تستغل حاجتهم وجهلهم بأساليب الحماية، مضيفًا أن اجتماع هذه العوامل – الأزمة المالية، وغياب البدائل الآمنة، وضعف الوعي – خلق بيئة خصبة لانتشار هذا النوع من الاحتيال في غزة.
ثقة مزيفة
وتحدث جحا أيضًا عن ظاهرة إنشاء الحسابات والشخصيات الوهمية التي أصبحت إحدى أكثر الوسائل شيوعًا لدى المحتالين لاستدراج الضحايا، موضحًا أنهم يعتمدون على ما يُعرف بـ "الهندسة الاجتماعية"، أي بناء ثقة مزيفة مع المستخدمين من خلال مظهر مقنع وسلوك محسوب.
وأضاف أن المحتالين غالبًا يستخدمون صورًا وأسماء مسروقة من الإنترنت لأشخاص حقيقيين أو مؤسسات معروفة، وينشرون محتوى جذّابًا يعزز من مصداقيتهم مثل صور لمشروعات خيرية أو منشورات إنسانية أو محتوى من صفحات موثوقة.
وبيّن جحا أن هناك مؤشرات يمكن ملاحظتها مبكرًا تكشف الحسابات الوهمية، من بينها أن يكون الحساب حديث الإنشاء، أو يفتقر إلى التفاعل الطبيعي، أو يستخدم لغة عاطفية مبالغ فيها، أو يستعجل في طلب التحويل المالي، أو لا يقدم تفاصيل دقيقة حول الجهة التي يُطلب التبرع لها، إضافة إلى اختلاف اسم الحساب عن اسم المحفظة الرقمية المستخدمة للتحويل، وهو مؤشر واضح على وجود عملية احتيال.
واختتم جحا حديثه بالتأكيد على أن المحتالين لا يعتمدون فقط على التقنيات، بل يوظفون الثقة الإنسانية كسلاح رئيسي في تنفيذ عملياتهم، مستغلين حاجة الناس في ظل الأزمات وضعف الوعي الرقمي لحصد مكاسب غير مشروعة.
