بقلم:د. إياد أبو الهنود
منذ اللحظة الأولى في تاريخ البشرية، كان سؤال القوة هو السؤال الذي يسبق كل الأسئلة، قبل أن تظهر الدول، وقبل أن يُكتب القانون، وقبل أن تتشكل السياسة، كان الإنسان يبحث عن معناها وحدودها، وقد تجلى هذا السؤال مبكرًا في قصة قابيل وهابيل؛ اللحظة التي تداخل فيها الخوف بالغيرة، وارتبطت فيها القوة بمحاولة إقصاء الآخر؛ ومنذ ذلك الحين، أدرك الإنسان أن القوة ليست مجرد تفوق جسدي أو أداة للهيمنة، بل هي جزء من معركة الوجود نفسه.
ومع تطور الحياة وتغير شروطها، انتقلت القوة من منطق “المخلب والناب” الذي حكم حياة الفطرة الأولى؛ حين كان الخطر المباشر معيارًا للبقاء، وكانت القدرة على الدفاع والصيد والحماية هي اللغة الأولى للوجود؛ ومع تزايد هذه المخاطر، بدأ الإنسان يطور أدوات القوة تباعًا: من الحجر والعصا والمقلاع، إلى السيف والرمح، وصولًا إلى ما نراه اليوم من طائرات «إف-35» والقنبلة النووية.
وبالتوازي مع هذا التطور، اتسع الاجتماع البشري وتعقدت احتياجاته، فتحولت القوة إلى بنية أوسع تتداخل فيها السياسة والمجتمع والاقتصاد والدبلوماسية، ورغم هذا التحول الهائل، ظل جوهر القوة ثابتًا: فمن يمتلك القدرة على صون وجوده في لحظات الخطر، يمتلك القدرة ذاتها على التأثير في مستقبله وفرض موقعه في معادلات العالم.
وعلى امتداد هذا التاريخ الطويل، تبدو التجربة الفلسطينية واحدة من أبرز التجارب التي أعادت تعريف القوة ومعناها، فالقضية الفلسطينية لم تكن يومًا صراعًا تقليديًا على أرض أو نفوذ، بل صراعًا على الوجود ذاته؛ ومنذ النكبة، عمل المشروع الصهيوني على أن يجعل احتلاله للأراضي الفلسطينية احتلالًا إحلاليًا؛ فاختلق سرديات من قبيل “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”، وسعى عبر الحرب والتهجير والطمس إلى تجريد الفلسطيني من روايته، ومن شرعيته، ومن مكانه في الجغرافيا وفي الذاكرة؛ غير أن ما حدث كان نقيض ما خطط له الاحتلال؛ إذ أعاد الفلسطيني إنتاج نفسه مرة بعد أخرى، في كل مساحة من مساحات حضوره: في المخيم، وفي القرية، وفي المدينة، وفي الشتات، وفي كل ساحة حاول الاحتلال محوها.
لقد أعادت غزة، خلال السنوات الأخيرة، صياغة مفهوم القوة الفلسطينية بصورة جلية أمام العالم، فوسط حرب إبادة جماعية مكتملة الأركان، لم تتجلَّ قوة الفلسطيني في حجم السلاح — في ظل اختلالٍ صارخٍ في موازين القوى يجعل الفلسطيني، بكل ما يملك، أشبه بالأعزل — بل في قدرة المجتمع على الصمود، وعلى حماية ذاكرته الجمعية، وعلى التمسك بمعنى الحياة رغم كل ما يستهدف نفيها، إن هذا الثبات، الذي يتواصل تحت القصف والحصار وفقدان أبسط شروط البقاء، ليس قوة عسكرية بالمعنى التقليدي، بل قوة إنسانية – اجتماعية خالصة، تُعيد تعريف المقاومة بوصفها فعل وجود قبل أن تكون فعل مواجهة، وتُظهر أن إرادة الحياة قد تصبح أعمق أثراً من أي ترسانة سلاح.
وفي الضفة الغربية، يظهر نوع آخر من القوة، أكثر هدوءاً لكنه لا يقل أهمية: قوة البقاء، فعلى الرغم من السياسات الإسرائيلية الممنهجة التي تستهدف تفكيك البنية الفلسطينية، وإضعاف مؤسسات السلطة، وتشويه شرعيتها أمام شعبها وأمام العالم، لم تتراجع الضفة عن حضورها، بل واجهت — خلال العامين الأخيرين — موجات متصاعدة من عنف المستوطنين المنظم، واجتياحات عسكرية متكررة، واقتحامات للمدن والبلدات، وعمليات إعادة هندسة للمخيمات عبر التجريف والقتل والتشريد والاعتقالات الواسعة، في محاولة لفرض واقع جديد بالقوة وتآكل المساحات الفلسطينية خطوةً بعد أخرى.
ومع ذلك، بقيت الضفة متمسكة بوجودها؛ بقيت مؤسساتها تعمل رغم كل الضغوط، وبقي المجتمع محافظاً على إيقاع حياته اليومية، يعيد بناء ما يُهدَم، ويحفظ تماسكه رغم كل ما يُراد له أن يتفكك، وهذه القوة الهادئة، التي لا تتصدر الأخبار غالباً، هي جزء أساسي من قدرة الفلسطيني على منع الفراغ الذي يسعى الاحتلال إلى فرضه، وعلى حماية معادلة الوجود من الانهيار.
كما يخوض الفلسطيني معركة موازية على الساحة الدولية لا تقل أهمية عن ساحة الميدان: معركة الدبلوماسية والسياسة الخارجية، فرغم الضغوط السياسية، والحصار المالي، ومحاولات نزع الشرعية عن مؤسسات التمثيل الوطني، استطاعت الدبلوماسية الفلسطينية أن توسع دائرة الاعتراف الدولي بالدولة الفلسطينية، وأن تنقل ثقل القضية من مربع “الإغاثة والإنسانية” إلى مربع الحقوق والسيادة، وقد نجحت — في لحظة دولية متقلبة — في بناء تحالفات جديدة، واستثمار التحولات الأخلاقية في الرأي العام العالمي، والحفاظ على حضور فلسطين في صدارة الأجندة الأممية.
وهذه الإنجازات ليست رمزية ولا بروتوكولية؛ بل تشكل رافعة حقيقية في معادلة القوة، لأنها تُرسخ للفلسطينيين موقعاً سياسياً وقانونياً يحد من محاولات الإقصاء، ويؤكد أن الشعب الذي يقاتل من أجل بقاء هويته على الأرض، يقاتل أيضاً من أجل شرعية روايته وحقه في الدولة على المستوى الدولي، وبذلك يصبح العمل الدبلوماسي امتداداً لمعركة الوجود ذاتها، لا منفصلاً عنها.
وعندما ننظر إلى هذه الدوائر الثلاث — قوة غزة التي تعيد تعريف الصمود تحت النار، وقوة الضفة التي تثبت قدرتها على البقاء رغم الاجتياحات وإعادة هندسة الجغرافيا بالقوة، وقوة الدبلوماسية التي تنتزع حضوراً دولياً يتسع عاماً بعد عام — ندرك أن القوة الفلسطينية اليوم ليست قوة من نمط واحد، بل قوة مركبة تتغذى من تماسك الشعب وقيادته، ومن مؤسسات تستمر في أداء وظائفها رغم محاولات التفكيك، ومن اعتراف دولي يتنامى رغم كل أشكال الحصار والضغط؛ إنها قوة تتشكل من تفاعل الميدان والسياسة، ومن قدرة الفلسطيني على تحويل التهديد إلى مساحة جديدة لإثبات وجوده وترسيخ حضوره.
لكن هذه القوة تفرض ضرورة الحفاظ على تنسيق أدوار مكوناتها، وتعزيز التكامل بين مؤسساتها، وحماية وحدتها من أي مظاهر للتشتت أو الأزدواجية؛ فالقوة الوطنية ليست ساحةً للتنافس الداخلي ولا مضماراً للصراع على الشرعية أو التمثيل، بل مسؤولية جماعية لبناء مستقبل أكثر استقرارًا، ولصياغة رؤية موحدة للمرحلة المقبلة، ومن خلال هذا الإطار الجامع يمكن تقديم فلسطين إلى العالم كما ينبغي أن تُرى: شعباً يمتلك إرادة الحياة وصناعة القرار، لا مجرد كيان يُختزل في كونه ضحية للاحتلال أو طرفاً يُعرف من خلال ما يُفرض عليه لا من خلال ما يصنعه.
وفي النهاية، أثبت الفلسطيني خلال قرن كامل من التجربة أن القوة الحقيقية لا تكمن في القدرة على إلغاء الآخر، بل في القدرة على الصمود والبقاء رغم كل محاولات الإلغاء والإفقار السياسي والاجتماعي، فقوة الوجود — التي صمدت في غزة تحت الحرب والإبادة، واستمرت في الضفة رغم الاجتياحات وعمليات التفكيك، وترسخت في الساحة الدولية من خلال الدبلوماسية والاعتراف القانوني — تشكل الركيزة الأساسية التي يمكن أن تُبنى عليها كل عناصر القوة الفلسطينية في “اليوم التالي”، لتصبح القوة ليست مجرد أداة ضغط، بل وسيلة لبناء الدولة والهوية والسيادة على الأرض والقرار السياسي المستقل.
