أبطال مجهولون يعيدون الحياة إلى شوارع غزة بعد الحرب

غزة/ البوابة 24- بسمة أبوناصر

في غزة بعد الحرب، عاد شادي إسليم، 31 عامًا، مع زملائه للعمل في المخبز بعد أشهر من التوقف بسبب الجوع. جاء ذلك بفضل دعم برنامج الغذاء العالمي الذي وفّر الدقيق والوقود. يعمل الفريق بلا توقف بنظام مناوبات يومية وسط حرارة الأفران وطوابير طويلة، مدفوعين بإحساس إنساني بأن كل رغيف يُخفّف معاناة الناس.

عودة المخابز.. مقاومة بالجوع والعمل

ورغم الإرهاق والمخاطر الناتجة عن الأعطال المفاجئة في الآلات، ومنها حادثة أفلتت فيها آلة ثقيلة وكادت أن تُصيب أحد العاملين، يواصلون العمل لأن أي توقف يعني حرمان آلاف المحتاجين من الخبز. بالنسبة لشادي، أصعب اللحظات كانت رؤية مسنّ ينتظر لساعات ثم يعود خالي اليدين بعد نفاد الخبز. ويعتبر هو وزملاؤه أن دورهم يتجاوز المخبز، فهم يعيدون نبض الحياة لمدينة أنهكتها الحرب، ويرون عملهم مقاومة للجوع وإعادة للأمل، لا بطولة شخصية.

عمال النظافة.. حمل المدينة على الأكتاف

أما أمين خلة، 47 عامًا، عامل النظافة في غزة، فقد حمل مع زملائه عبء مدينة مُنهكة. عملوا ليلًا ونهارًا لإزالة الركام يدويًا وسط نقص المعدات، حيث كان تنظيف شارع واحد يستغرق أسبوعًا كاملًا. واجهوا المخاطر يوميًا، لكنهم واصلوا العمل لأن الشارع النظيف يعني حياة للناس. بالنسبة لأمين، كانت المهمة مشاركة أحزان الناس ومحاولة التخفيف عنهم، مع اهتمام خاص بكبار السن الذين يخدمهم أولًا. أدرك أن دوره أصبح أساسيًا في إعادة الأمان والأمل، وأن كل شارع نظيف يمثل بداية جديدة للمدينة المنهكة.

السائقون.. شريان النجاة في طرق مدمرة

ومن بين من أعادوا تشغيل الحركة في المدينة، يبرز أحمد نصار، 35 عامًا، السائق الذي واصل عمله وسط الطرق المدمرة والأنقاض. بات الناس يعتمدون على السائقين كوسيلة نجاة للوصول إلى المستشفيات والعمل والأسواق. أكثر ما أثّر فيه كان نقل المرضى والأطفال الجرحى، حيث شعر أن دوره يتجاوز القيادة ليصبح فارقًا بين الحياة والموت. يحفظ جيدًا لحظة أوصل فيها طفلة مصابة إلى المستشفى وكانت تتشبث بيده خوفًا، وهي ذكرى تدفعه للاستمرار رغم نقص الوقود وارتفاع الأسعار والأعطال المتكررة. ويرى أن توقف السائقين يعني توقف الحياة في غزة، فكل رحلة بالنسبة له هي مساهمة في إعادة نبض المدينة.

تحديات التشغيل بعد الحرب: وقود نادر وطرق مدمرة

يصف رائد مقاط، مدير دائرة الصحة والبيئة في بلدية جباليا النزلة، عمال النظافة والصرف الصحي بأنهم “العمود الفقري للحياة اليومية”. ويقول: “هم الجنود المجهولون للمدينة، أول من يعود للدوام بعد توقف الحرب. كثير من العاملين الذين كانوا في الجنوب عادوا للشمال مباشرة، لأن استمرار الخدمات الأساسية يعتمد عليهم بالكامل”.

ويشير رائد إلى تحديات كبيرة واجهت البلدية في إعادة تشغيل الخدمات بعد الحرب: نقص السولار، غياب قطع الغيار، والطرق المغلقة. ويوضح: “إذا لم تُحل هذه المشاكل سريعًا، لا يمكن للخدمات أن تعود إلى وضعها شبه الطبيعي. لذلك نعتمد بشكل كبير على جهود العمال الذين كانوا أحيانًا يعملون بدل الكباشات حتى أثناء القصف”.

ويؤكد أن عمال الصرف الصحي يعملون في ظروف خطرة للغاية، وأحيانًا داخل المناهل دون توفر معدات كافية، إلا أن تفانيهم استثنائي. ويوضح: “أحيانًا نعتمد على الكارات والأعمال اليدوية لجمع النفايات إذا لم يتوفر السولار بشكل كافٍ”. وتشدد البلدية على تقدير هذه الفئة عبر المكافآت والمساعدات، والسعي لتوفير الآليات التي كانت مستخدمة قبل الحرب لتسهيل العمل وحماية صحة العمال. ويختتم رائد بدعوة إنسانية: “أتمنى أن يُعطى الجميع حقهم وأن ينظر الناس إليهم بعين الرحمة، لأنهم يعملون بصمت لكن دورهم أساسي في إعادة نبض المدينة”.

أثر هذه الفئات على الحركة الاقتصادية والحياة اليومية

وفي سياق متصل، يؤكد الخبير الاقتصادي أحمد أبو قمر أهمية استمرار هذه الفئات في العمل خلال هذه المرحلة الحرجة، مع ضرورة إزالة العقبات التي تواجهها قدر الإمكان. ويرى أن استمرار هذا الوضع “ليس طبيعيًا”، بل يُعد استثناءً، مشيرًا إلى أن التعافي الاقتصادي الحقيقي يتطلب فتح المعابر، إعادة إعمار المصانع، وتنمية الأراضي الزراعية التي تحقق فائضًا في الميزان التجاري وناتجًا محليًا أفضل، فضلًا عن تخفيض مستويات البطالة.

ويشير أبو قمر إلى أن المخاطر التي تواجه هذه الفئات كبيرة، حيث لا يوجد تأمين أو حقوق عمالية أو تعويضات، ما يجعل ظروف عملهم هشّة للغاية. ويصف الوضع الحالي بأنه “اقتصاد البقاء”، الذي يتكيف مع الواقع المفروض نتيجة الحرب. فقد اندثرت بعض المهن التقليدية وظهرت مهن جديدة مثل خدمات سيارة الجار والمجرور وخياطة الأحذية لتلبية الاحتياجات. هذه الفئات تشكل أساس بقاء اقتصاد البقاء واستمرارية الحياة اليومية، فلولاهم لكانت قطاعات واسعة قد أصابها الشلل، ولما استطاع الناس الحصول على حاجاتهم الأساسية.

ويضيف أن استمرار العمل في هذه القطاعات له أثر اقتصادي ملموس، إذ يسمح بتوفير حركة اقتصادية ويخلق فرص عمل حتى لو كان الإنتاج بجودة أقل من المعتاد. ويساهم ذلك في الحفاظ على الاقتصاد المحلي وتخفيف وطأة البطالة، حتى مع ظهور “اقتصاد الظل” أو السوق السوداء، إذ يشكل هذا كله حاليًا جزءًا من آليات البقاء والتكيف مع الظروف الاستثنائية.

في قلب غزة بعد الحرب، يبرز هؤلاء الصامتون كأبطال حقيقيين. بفضل جهودهم وتفانيهم، أعادوا الحياة إلى الشوارع والأمل إلى نفوس الناس، مؤكدين أن المدينة يمكن أن تنهض من الرماد بفضل عزيمة من لا يعرفون التوقف.

البوابة 24