منار كلوب.. حين يصبح كيس الطحين بوابة للفقد

صورة توضيحية
صورة توضيحية

غزة/ البوابة 24- نيفين اسليم

في خيمة صغيرة تتكدّس عند بابها رياح الشتاء، تجلس منار كلوب (40 عامًا) تحاول أن ترتّب كلماتها، بينما يفيض من صوتها ما تعجز عنه الدموع. تتحدث والحزن يتقافز من ملامحها، من يديها اللتين تتحركان ببطء، ومن نظرةٍ تبدو كأنها عالقة في مكان آخر غير هذا الركن الضيق من النزوح.

تقول منار إن السادس من ديسمبر 2024 كان اليوم الذي تغيّر فيه كل شيء. استيقظت فيه لتفقد زوجها خالد؛ الرجل الذي كان عمود خيمتها الحقيقي، وسندها ووالد أطفالها السبعة، من فريال ذات الإحدى والعشرين عامًا وحتى علي ابن السابعة. كانت حياتها قبل ذلك اليوم تمضي على إيقاع بيت دافئ ومستقر، ثم انهار الإيقاع كله لحظة غاب خالد، وترك خلفه بيتًا امتلأ بالصمت أكثر من أي شيء آخر.

تقول بصوت يختلط بالحنين: علّمني زوجي كيف أكون على قدر المسؤولية، وغرس في نفسي حبّ الحياة. لم يجعلني يومًا بحاجة إلى أحد، إذ كان يوفّر لنا كل ما نحتاج إليه. كانت حياتي معه دافئة مطمئنة، غير أنّ تلك الطمأنينة لم تدم طويلًا.

كلمة كسرت الأب

في منتصف أيام الحصار وقف ابنها الصغير علي (7 سنوات) أمام والده قائلا : بابا… أنا جائع أريد خبزاً.
هذه الجملة ،كانت أشبه بطعنة في قلب الأب الذي لم يعجز يوما… إلا أمام جوع طفله.
شعر خالد بالعجز وبكرامته الجريحة،  قال لزوجته: «أريد أن أخرج لأجلب الطحين ولو افتديت حياتي.» حاولت منار أن تثنيه بحزم الأم وخوف الزوجة قائلة: «لا يا خالد… ليس لنا غيرك.» استجاب قليلًا، غير أنّ القلق لم يغب عن عينيه.

القرار… والاتصال الذي غير مصير العائلة

في اليوم التالي ارتدى خالد ثيابه، وكأن قوة خفية تشدّه نحو القدر. جاءه اتصال هاتفي، وسمعت منار صوته يقول: جاهز، توكّلنا على الله. تقول منار: شعرت بخوف شديد، وقفت أمامه، لكنه بادرني سريعًا قبل أن أسأله: ذاهب في مشوار مع الأصدقاء، لا تقلقي. وكانت آخر كلماته: "اعتني بالأولاد." ذلك كان آخر حوار بيننا، وآخر نظرة، وآخر أنفاسه داخل الخيمة.

وصايا ما قبل الرحيل.. إحساس الشهيد قبل استشهاده بأيام، كان خالد يكثر من الوصايا على نحو غير مألوف، فكان يقول: منار، اعتني بهم، هذه وصيتي. واحرصوا على بعضكم، فأمكم أمانة بين أيديكم. وتروي منار: كان قلبه يستشعر الفقد، كان يودّعنا ونحن لم ندرك ذلك.

حتى علي الطفل الصغير لم يرفض له خالد طلبا ، وكأنه يودع ابنه بطريقة لا يفهمها إلا الآباء الذين يشعرون بالموت قبل أن يأتي.

الخبر الذي أفجع الأسرة وأدمى قلب منار: "زوجك قد استُشهد." بعد ساعات من خروجه، جاء أحد الأقارب بخبرٍ يقول: "خالد قد أُصيب، فلا تقلقي." غير أنّ القلق كان سيد الموقف. وقبل أن يصل شقيقي إلى الخيمة، جاء النبأ الصاعق: خالد قد استُشهد.

تصف منار تلك اللحظة قائلة: كأنّ الأرض قد انشقت، لم أعرف كيف أبكي أو أصرخ، واكتفيت بالنظر إلى أولادي وقلبي يتقطع، عاجزة عن الكلام، لا أدري ماذا أقول لهم. وتضيف: لم أستطع الذهاب إلى المستشفى، بل أُحضر الجثمان إلى الخيمة. وقفت أمام جسده الطاهر لأدرك أنّ حياتنا قد تغيّرت إلى الأبد، وأنني أصبحت أمًّا وأبًا لسبعة أطفال، وكل ذلك من أجل كيس طحين.

المأساة تتكرّر.. وصول كيس الطحين في اليوم التالي مباشرة وصلت رسالة نصيّة تقول: توجّهي إلى مركزنا لاستلام كيس الطحين. وتروي منار: لقد استُشهد زوجي من أجل هذا الكيس، فكيف لي أن آخذه؟ لكنني وزّعته على الجيران والأقارب، إذ انكسرت نفسي. وكان ثمنه آنذاك ألفي شيكل، غير أنّه أمام روح خالد لا قيمة له ولا معنى.

تشير الاحصائيات الحقوقية إلي أن الحرب خلفت أكثر من 37 ألف أرملة في غزة عام 2024 ، كثيرات منهن فقدن أزواجهن أثناء محاولتهم توفير الطعام لعائلاتهم في ظل الحصار الإسرائيلى والمجاعة. أم من كل ثلاثة أمهات أصبحت بلا رفيق حياتها مسؤولة عن 5–7 أطفال وحدها. منار واحدة من هؤلاء لكنها تحمل حكاية تتغلغل في القلب.

رحلة المساعدة.. ستة كيلومترات يوميًّا نحو الخطر

 بعد استشهاد زوجها، انقطع راتب الشهيد أحد عشر شهرًا رغم استكمال الأوراق الرسمية لدى هيئة التأمينات والمعاشات. ومع توقّف الطرود الغذائية، لم يبقَ أمام منار خيار سوى الخروج يوميًّا بحثًا عن المساعدة.

وتقول منار: كنت أتوجّه إلى مناطق توزيع المساعدات الإنسانية، سواء نقطة الطينة أو العلم أو الشاكوش، لجلب الطعام. كنت أمشي ستة كيلومترات يوميًّا مع ابنتي ذات الأربعة عشر عامًا تحت الشمس الحارقة، بين ركام المنازل، وسط الزحام والبلطجية، وتحت تهديد الرصاص والقصف الإسرائيلي.

كنت أودّع أولادي كل يوم وأقول لابنتي فريال: إن حدث لي شيء، فقفي مع إخوتك وكوني سندًا لهم. كنت أحمل روحي بين يديّ. وأحيانًا أعود بشيء، وأحيانًا أعود بلا شيء بعد التعرض للسرقة والرعب.

 الفرحة المنقوصة.. زفاف في غياب الأب

ابنتها الكبرى فريال قد خُطبت، وهي مقبلة على عقد قرانها قريبًا. غير أنّ الفرح ناقص؛ إذ تقول فريال وهي تبكي: "ليت والدي يكون معي." فتشاركها منار دموعها وتقول بحرقة: الأعياد والمناسبات في غزة بلا آباء. وتكرّر منار العبارة والدموع تملأ عينيها: إن ابنتي فريال طالبة جامعية تحتاج إلى مصاريف، وعبء تجهيزها اليوم يفوق طاقتي وإمكاناتي المحدودة. يا رب أعنّي على تلبية احتياجاتها وإدخال الفرحة إلى قلبها.

مع إغلاق مناطق توزيع المساعدات، فقدت منار آخر خيط كانت تتشبّث به: لا راتب.. لا مساعدات… سبعة أطفال.. وفقر يطرق الأبواب بقسوة.. ووحدة قاسية.

وتقول منار بتنهيدة طويلة: لا أعلم كيف سأكمل، لكنني سأواصل من أجل وصية خالد.

منار ليست قصة تُروى، بل شهادة حيّة. فمنار كلوب ليست مجرد اسم في سجل الأرامل، بل امرأة فقدت زوجها من أجل كيس طحين، وما زالت تقف لتطعم أبناءها وتقود بيتًا يفتقد السند وركنًا من أركانه.

إنها صورة لعشرات آلاف النساء في غزة اللواتي يحملن الوطن على أكتافهن، ويواصلن المسير رغم الفقد والوجع والجوع. فهذه الحكاية ليست عن الموت، بل عن قوة الحياة التي تنبض رغم كل شيء.

البوابة 24