الإستعمار المتجدد والوعي المتجمد: قراءة في تداعيات ١٩٦٧ ومآلات ما بعد ٧ أكتوبر

بقلم: ياسر المصري.

إنَّ حرب عام 1967 شكّلت نقطة انعطاف حادّة في التاريخ العربي الحديث، مثّلت صدمة استراتيجية أفضت إلى اهتزاز البنية السياسية العربية برمّتها، وفي مقدمتها مشروع القومية العربية بقيادة جمال عبد الناصر. فقد أدّت الهزيمة إلى انهيار الخطاب الناصري بوصفه الحامل الرئيس لفكرة الوحدة والتحرّر، وعمّقت شعور العجز الجماعي أمام تفوّق إسرائيل العسكري. وعلى المستوى الجغرافي، أسفرت الحرب عن توسّع كبير في مساحة الأراضي التي احتلّتها إسرائيل، إذ سيطرت على الجولان السوري، والضفة الغربية بما فيها القدس، وقطاع غزة وسيناء المصرية. وقد فتح هذا التحوّل الباب أمام إعادة تشكيل عميقة لخرائط النفوذ والحدود، بما عزّز من صورة إسرائيل كقوة عسكرية إقليمية لا يُستهان بها.

وفي الجانب الإنساني والديمغرافي، ولّدت نتائج الحرب موجات جديدة من اللجوء والنزوح الفلسطيني، الأمر الذي غيّر بصورة ملموسة الواقع الديمغرافي في فلسطين التاريخية، ورسّخ حضور أزمة اللاجئين كأحد أعقد عناصر الصراع العربي-الإسرائيلي وأكثرها استمراراً. وقد أسهم هذا التحوّل في تعميق الإحساس بالقلق الوجودي لدى الفلسطينيين والعرب على حدّ سواء، وأعاد تعريف مفهوم الهوية والمكان في ظل فقدان الأرض والسيادة.
أما الحرب التي تلت أحداث 7 أكتوبر 2023، فقد جاءت بصيغة مختلفة من حيث الأدوات والفاعلين، لكنّها حملت من حيث النتائج ملامح تشابه جوهرية مع تداعيات 1967. فالهجوم غير المسبوق على مستوطنات ما تسميه اسرائيل غلاف غزة وما أعقبه من حرب واسعة شنّتها إسرائيل على قطاع غزة، تداخل معها تصعيد عسكري في جنوب لبنان، وضربات متبادلة مع إيران ووكلائها الإقليميين، بما في ذلك استهداف جماعة الحوثي. وقد رافق هذا التصعيد تدمير هائل للبنية العمرانية في قطاع غزة، وما نتج عنه من كارثة إنسانية غير مسبوقة طالت مئات الآلاف من الفلسطينيين بين قتيل وجريح ومشرّد.

وترافقت هذه المواجهة مع تغييرات مفصلية في الخارطة القيادية للفصائل المسلحة، كمقتل حسن نصر الله واغتيال معظم القيادات السياسية والعسكرية في حركة حماس، وهو ما يعتبر حدث بالغ التأثير لم يكن متوقعاً في ميزان الردع التقليدي. وقد أسهم هذا المسار في اهتزاز أدوار فاعلين إقليميين كانوا يُنظر إليهم لعقود بوصفهم ركائز أساسية في معادلة المقاومة والردع "حزب الله وكتائب القسام إلى حد ما".

وعلى الرغم من اختلاف السياقات الزمنية والسياسية بين 1967 وما بعد 7 أكتوبر، إلا أن التشابه بينهما يتجلّى في طبيعة النتائج العسكرية والإنسانية العميقة التي ترتّبت على كلّ منهما. ففي كلتا الحالتين شهدت المنطقة تحوّلاً جذرياً في موازين القوة، وتفاقما مأساويا في الكلفة الإنسانية، وارتساما جديدا لحدود النفوذ، وتغيّرا في مسار القضية الفلسطينية بوصفها المحور المركزي للصراع.
وهكذا، تبدو الحربان—على تباعدهما التاريخي—محطتين كُبرى أعادتا صياغة المشهد الإقليمي، ورسّختا حقيقة أن الصراع في المنطقة لا ينفكّ يعيد إنتاج نفسه عبر موجات من الانفجار، تتشابه في النتائج وإن اختلفت في الأسباب والوسائط.

ويُظهر تتبّع مسار السياسات الغربية المتحالفة مع إسرائيل أن ثمة نمطا ثابتا في الأساليب والأدوات التي تنتهجها القوى الاستعمارية القديمة والمعاصرة، يقوم على افتراض مركزي مفاده أنّ الأمن الإسرائيلي قيمة عالمية عليا تتقدّم على سائر الاعتبارات السياسية والإنسانية والقانونية في المنطقة. وقد ظهر هذا النمط بوضوح منذ حرب عام 1967، إذ تعاملت القوى الدولية مع الحرب بوصفها لحظة فاصلة، لأنها منحت إسرائيل مجالا واسعا لإعادة تشكيل موقعها في النظام الإقليمي والدولي. فجاء صدور القرار الأممي 242 ليعبّر عن هذا التحوّل: فقد نصّ على احترام سيادة دول المنطقة على أراضيها وحرية الملاحة في الممرات الدولية، لكنّه فتح في الوقت نفسه الباب أمام تكريس واقع جديد لحدود إسرائيل وضمان أمنها البحري، بما يعكس الأولوية التي مُنحت لاعتبارات الأمن الإسرائيلي على حساب معالجة جوهر الصراع.

ويتّضح التشابه في الأساليب عند مقارنة هذا المسار بمؤسسات أُنشئت تحت عناوين إنسانية لكنها حملت في جوهرها بنية استعمارية وظيفية. فقد تأسست وكالة الأونروا عام 1949 للتعامل مع قضية اللجوء الفلسطيني في إطار "إغاثي-إنساني" منزوع السياسة، وهو توصيف أفضى إلى تفريغ القضية من بعدها السياسي والحقوقي وتحويلها إلى أزمة معيشية قابلة للإدارة، لا قضية تحرّر وعودة. هذا النهج ذاته يتكرّر في السياق المعاصر عبر إنشاء "مجلس السلام" لإعادة إعمار قطاع غزة، الذي قُدّم هو الآخر بصيغة إنسانية-اقتصادية، بينما يجري عمليا عزله عن جذور الصراع، وتحويل الدمار الهائل في غزة إلى مسألة بنى تحتية لا مسألة احتلال وعدوان وسيادة.

ويزداد هذا النمط وضوحا في ما يتعلق بالاعتراف الأوروبي الأخير بفلسطين كدولة. فعلى الرغم من رمزية هذا الاعتراف، إلا أنه جاء محكوما بشروط واضحة تخدم مصالح إسرائيل الإعلامية والسياسية، وتُلزم الفلسطينيين بتنازلات أو تغييرات في السلوك السياسي، من دون أن يرفق بأي التزام دولي بإدانة إسرائيل أو فرض عقوبات عليها نتيجة الجرائم والانتهاكات التي ارتُكبت بحق الشعب الفلسطيني. فالاعتراف هنا أداة ضبط سياسي تسعى لاحتواء الغضب العالمي من مشاهد الحرب، والحفاظ على صورة الغرب أمام الرأي العام، من دون المساس بجوهر العلاقة العضوية التي تربطه بإسرائيل.
وليست هذه الشروط سوى امتداد لتاريخ طويل من المطالب الغربية للفلسطيني بأن "يتغيّر" سياسيا وأخلاقيا وإداريا، من دون أي التزام موازٍ يفرض على إسرائيل أن تغيّر سياسات الاحتلال، أو أن تتقيد بقرارات الشرعية الدولية والقانون الدولي الإنساني. فالسردية الغربية تحمّل الفلسطيني وحده مسؤولية "تعديل سلوكه" بينما تُعفي الاحتلال من مسؤولياته، وتمنحه مظلة سياسية وقانونية تحميه من المساءلة.
وهكذا، فإن الأساليب التي مورست بحق الفلسطينيين منذ منتصف القرن العشرين—من إن

البوابة 24