بقلم:د. نهاد رفيق السكني
في مصر، هناك قاعدة قديمة غير مكتوبة يحترمها الجميع منذ عقود: لا تُرفع أعلام الدول، سواء كانت عربية أم أجنبية، في الشوارع أو على الكباري أو السيارات أو المحلات التجارية، إلا فوق مباني السفارات الرسمية فقط. هذه القاعدة متفق عليها من باب النظام والاحترام المتبادل، ويعرف كل مصري أن احترامها جزء من الأخلاق الاجتماعية. إلا علمًا واحدًا، تجاوز هذه القاعدة بهدوء ومحبة منذ أكثر من سبعين سنة، ولم يعترض عليه أحد، ولم يطلب أحد إزالته يومًا، بل صار الناس يرونه جزءًا طبيعيًا من المشهد اليومي، ويمثل حضورًا حيًا في الحياة العامة: علم فلسطين. تمشِ في أي شارع مصري — في القاهرة أو الجيزة أو الإسكندرية أو البحيرة أو المنصورة أو أسوان — وسترى أن حضور العلم أصبح أمرًا طبيعيًا مثل إشارات المرور وصوت الباعة. وإذا وقفت على أي رصيف لدقائق، ستكتشف قاعدة شعبية أخرى غير مكتوبة: من بين كل أقل من عشر سيارات تمرّ أمامك، ستجد إحداها على الأقل تحمل علم فلسطين أو خريطتها أو شعارًا صغيرًا يذكّر بها. ولا يتوقف الأمر عند السيارات الخاصة، بل يشمل الميكروباصات، التاكسيات، الأوتوبيسات، سيارات الأجرة، التوكتوك، عربات النقل، وحتى مراكب النيل السياحية والزوارق الصغيرة الممتدة على حوض النيل وممشى النيل. انتشار واسع بلا حملة، وبلا تعليمات، وبلا جهة تنظّم أو توجّه… فقط وعي شعبي صادق يكرر نفسه آلاف المرات يوميًا، وكأن روحًا واحدة تربط المصريين بهذا العلم أينما ظهر. انظر حولك، وستجد فلسطين في كل مكان: ملصقات مرسومة على أبواب المحال الحديدية، كأن المحل وُلد وعلم فلسطين على جبينه، وملصقات على زجاج الميكروباص والتوكتوك وعربات النقل الثقيل بألوان ثابتة لا تبهت، ورسومات جرافيتي على الجدران في أماكن لا تخطر على بال أحد، ومعلّقة أو مرسومة على مداخل المدارس الحكومية والخاصة جنب علم مصر، بنفس الحجم وبنفس الوقار، كأنها جزء من لوحة وطنية واحدة. تجد أيضًا فلسطين مكتوبة على واجهات الدكاكين: "كشري القدس"، "صيدلية غزة"، "مغسلة الأقصى"، كما ترى الملصقات متدلية من شرفات البيوت الشعبية منذ سنوات طويلة، حتى صار وجودها جزءًا من بناء العمارة، وتصبح جزءًا من المشهد اليومي الطبيعي. كما أنها متوشحة مظلات الباعة الجائلين، وعلى عربات الفول والطعمية، لتصل إلى كل شرائح المجتمع، من الفقراء إلى الأغنياء، من الطلاب إلى العمال، في كل مدينة وحي وشارع. هذا الحضور لم يعد مجرد رمز تضامن، بل أصبح تجسيدًا حيًا لشهامة المصريين وكرمهم وحبهم للفلسطينيين. الشعب المصري لم يجعل فلسطين قضية سياسية أو شعارًا عابرًا، بل جعلها جزءًا من حياته اليومية، من زجاج السيارات إلى واجهات المحال، ومن شرفات البيوت إلى الميادين، ومن أكتاف الأطفال إلى مظلات الباعة، دون أن يسأل أحد نفسه عن السبب. فالسؤال الوحيد الذي يطرحه كل مصري في ذهنه عندما يرى علم فلسطين في أي مكان هو: "ولماذا لا؟" مصر، على مر التاريخ، فتحت أبوابها لكل من لجأ إليها: السوريون، اللبنانيون، العراقيون، الليبيون، اليمنيون، السودانيون، الصوماليون وغيرهم. أطعمتهم، وآوتهم، وعلّمت أبناءهم، ولم تبخل عليهم يومًا. لكن فلسطين حالة استثنائية، مختلفة عن أي شعب آخر، لأن الفلسطيني الذي وصل مصر منذ النكبة وبعد الحروب الأخيرة جاء في أشد حالات الفقر والهشاشة، بلا مال ولا نفوذ، ومع ذلك لم يُعامل يومًا كلاجئ، بل كأخ أصيل وابن عم، فتحت له القلوب قبل الأبواب، وكتب اسمه على الجدران قبل ختم الدخول. ومن هذا الحب جاء الدعم المصري على المستويين الرسمي والشعبي معًا. خاضت مصر أربع حروب كبرى دفاعًا عن فلسطين، وقدمت عشرات الآلاف من الشهداء دون أن تطمع في شبر من أرضها. وتفتح معبر رفح شريان الحياة لغزة، وترسل الغذاء والماء والدواء، وتستقبل الجرحى، وتبني المستشفيات الميدانية وخيام النازحين، وترسل قوافل الإغاثة في أحلك اللحظات. كما تقود المصالحات الفلسطينية، وتتوسط التهدئة، وترفع الصوت في كل محفل دولي لدعم حق الفلسطينيين في دولة كاملة السيادة على حدود الرابع من يونيو عام 1967، وعاصمتها القدس الشرقية. وعلى الجانب الشعبي، يتبرع المصريون في كل كارثة بملايين الجنيهات في أيام قليلة، ويفتحون بيوتهم ومدارسهم وجامعاتهم للفلسطينيين منذ زمن بعيد، دون انتظار مقابل، مجرد شعور أخوي متجذر، وواجب أخلاقي طبيعي، يخرج من القلب قبل اليد. علم فلسطين في مصر لم يعد مجرد رمز تضامن، بل صار جزءًا من نسيج الحياة اليومية، جزءًا من الحجارة التي تبني البيوت، جزءًا من نبض القلوب، وامتدادًا للوجدان الشعبي. فلسطين هنا ليست زائرة أو ضيفة، بل ابنة البيت منذ الأزل، تاريخنا المشترك على ضفتي سيناء، وسفر أجدادنا التجاري والتعليمي بين غزة والقاهرة جعلها امتدادًا جغرافيًا وروحيًا معًا. وعلمها — تحديدًا علمها — لم يعد رمزًا يرفرف فوق سفارة، بل صار لونًا على كل باب وزجاج وواجهة… صار حجرًا في البناء، وخيطًا في النسيج، ونبضًا يوميًا لا يحتاج إلى تفسير.
