بقلم: المحامي علي ابوحبله
يغادر رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو إلى الولايات المتحدة في زيارة تُعد من أكثر زياراته حساسية وتعقيدًا منذ اندلاع حرب غزة، محمّلًا بأزمات داخلية خانقة وملفات سياسية وأمنية متراكمة، وبسعي واضح لتوظيف علاقته بالرئيس الأميركي دونالد ترامب كرافعة إنقاذ سياسي واستراتيجي. تأتي الزيارة فيما يعيش الداخل الإسرائيلي حالة اضطراب غير مسبوقة: فضائح سياسية، اتهامات بتسريب وثائق استخباراتية، جدل متصاعد حول إعفاء الحريديم من الخدمة العسكرية، تشققات داخل الائتلاف الحاكم، واستمرار النزيف الأمني الناتج عن حرب طويلة لم تحقق أهدافها المعلنة. في هذا السياق، لا تبدو زيارة نتنياهو مجرد محطة تنسيقية، بل محاولة لإعادة التموضع داخليًا وخارجيًا. تحالف أم تبعية؟ هذا هو اللقاء السادس بين نتنياهو وترامب في الولاية الثانية للأخير، وهو رقم لافت يفتح الباب أمام تساؤل مركزي: هل تعكس هذه الوتيرة العالية تحالفًا استراتيجيًا متينًا، أم أنها مؤشر على علاقة غير متكافئة تميل فيها إسرائيل إلى موقع التابع الباحث عن الغطاء الأميركي؟ الواقع يشير إلى أن ميزان المصالح في هذه المرحلة يميل بوضوح لصالح واشنطن، التي تسعى إلى تثبيت وقف الحرب في غزة، ومنع انزلاق المنطقة إلى مواجهة إقليمية واسعة، والتفرغ لصفقات اقتصادية كبرى مع السعودية وتركيا، فضلًا عن تعزيز صورة ترامب كرئيس “ينهي الحروب” لا يشعلها. غزة… عقدة المرحلة الثانية القضية المركزية على طاولة اللقاء ستكون غزة، وبالتحديد الانتقال إلى المرحلة الثانية من الاتفاق. فالإدارة الأميركية ترى في هذا الانتقال إنجازًا سياسيًا يجب حمايته والبناء عليه، بينما تنظر حكومة نتنياهو إليه كتهديد مباشر لسردية “النصر المطلق” التي روّج لها منذ السابع من أكتوبر. المرحلة الثانية تعني عمليًا انسحاب الاحتلال من “الخط الأصفر”، وبدء إعادة إعمار القطاع، والانتقال من منطق الحرب المفتوحة إلى ترتيبات سياسية وأمنية. وهنا يواجه نتنياهو مأزقًا مزدوجًا: فهو غير قادر سياسيًا على رفض هذا المسار صراحة، وغير راغب استراتيجيًا في تنفيذه دون تحقيق هدف نزع سلاح “حماس”، وهو هدف تدرك غالبية الأوساط الإسرائيلية أنه غير قابل للتحقق في الظروف الراهنة. دغدغة “أنا” ترامب يعرف نتنياهو شخصية ترامب جيدًا، ويدرك أن الصدام المباشر معه ليس خيارًا واقعيًا. لذلك من المرجح أن يعتمد أسلوب “نعم ولكن”، عبر محاولة دغدغة الأنا السياسية لترامب، وتقديم نفسه شريكًا في “حماية إنجاز السلام”، مقابل ربط أي تقدم في غزة بحزمة مطالب أمنية وسياسية إضافية. في هذا الإطار، سيحاول نتنياهو رهن الانسحاب من غزة بنزع سلاح “حماس”، وتقليص دور قطر، ومنع أي دور تركي في ترتيبات ما بعد الحرب، وفرض صيغة “قوات استقرار” تخلو من أي أفق سيادي فلسطيني حقيقي. غير أن هذه المقاربة تصطدم بواقع أن واشنطن، خلافًا لتل أبيب، لا ترى في بقاء “حماس” ذريعة كافية لتعطيل مسار سياسي يخدم مصالحها الإقليمية الأوسع. مساومة غزة بإيران ولبنان إدراكًا لصعوبة عرقلة المرحلة الثانية، قد يلجأ نتنياهو إلى سياسة المساومة: القبول المشروط بغزة مقابل تنازلات أميركية في ملفات أخرى، وعلى رأسها إيران ولبنان. التقديرات الإسرائيلية تشير إلى أن نتنياهو سيعرض معلومات استخباراتية حول إعادة بناء القدرات الصاروخية الإيرانية، وسيطلب ضوءًا أخضر – مباشرًا أو غير مباشر – لعمل عسكري مستقبلي ضد إيران، إضافة إلى توسيع هامش التحرك العسكري في لبنان. لكن هذه الطموحات تصطدم بسقف أميركي واضح: إدارة ترامب، رغم خطابها المتشدد، لا ترغب في حرب إقليمية جديدة قد تقوّض مشاريعها الاقتصادية وتحالفاتها الناشئة. الرهان على الخطأ وغياب الرؤية يرى عدد من المحللين الإسرائيليين أن نتنياهو قد يفضّل فشل المرحلة الثانية ليس بقراره، بل نتيجة “خطأ” من “حماس” يعيد خلط الأوراق. هذا الرهان يعكس غياب استراتيجية سياسية متكاملة، والاكتفاء بإدارة الأزمة بدل حلها. وتتسع داخل إسرائيل دائرة الانتقادات لغياب أي تصور لليوم التالي في غزة، أو للقضية الفلسطينية عمومًا. فالحكومة، بحسب هذه القراءات، ما زالت أسيرة منطق القوة العسكرية، رغم فشلها في تحقيق الحسم، ورغم الكلفة السياسية والأخلاقية المتصاعدة. خلاصة لقاء نتنياهو–ترامب لن يكون لقاء قطيعة، لكنه أيضًا لن يكون شيكًا على بياض. هو لقاء إدارة تناقضات لا حلّها، ومساومات تكتيكية لا تحولات استراتيجية. سيحاول نتنياهو الخروج بأكبر قدر ممكن من المكاسب، لكنه يدرك أن قدرة إسرائيل على فرض أجندتها على واشنطن لم تعد كما كانت. تكشف هذه الزيارة أزمة أعمق من مجرد خلافات سياسية: أزمة غياب رؤية، واستنزاف قوة، وتآكل سردية، في لحظة إقليمية تتغير فيها موازين القوة، وتُعاد فيها صياغة الأولويات بعيدًا عن منطق الحروب المفتوحة.
