بقلم: عائد زقوت
تقف القضية الفلسطينية اليوم عند مفترق تاريخي حقيقي، تتقاطع فيه المأساة الإنسانية غير المسبوقة، التي يعيشها أهل غزة تحت وطأة حرب مفتوحة وتدابير ممنهجة تُفاقم معاناتهم مع لحظة سياسية مأزومة تتراجع فيها القدرة على الفعل الوطني المنظّم في مواجهة الحالة الذوابية الممنهجه للكيانية السياسية. وفي خضم هذا المشهد المعقّد، لا تبدو الأخطار الخارجية وحدها مصدر التهديد، بل يبرز خلل داخلي يتمثل في استمرار إنتاج خطاب سياسي وإعلامي يُوظِّف الألم الفلسطيني ضمن حسابات فئوية وأهداف أيديولوجية بقائيّة، على حساب أولويات وطنية جامعة تستجيب لحجم التحدي القائم. وتزداد خطورة هذا الخلل حين يُغلَّف بلُغَة دينية ووطنية فضفاضة، تُسهم بعض القيادات والمنابر والأقلام المُبَرِرة والمُمَرِرة الأسيرة لأنويّتها الحزبية في إعادة إنتاجها، فتتحوّل السياسة من أداة مُساءلة وبناء إلى مساحة تبرير ومزايدة. وبهذا، يُدْفَع النقاش العام نحو ضجيج خطابي يُستَهلَك فيه الألم الإنساني، بينما تُهمَّش الأسئلة الجوهرية المتعلقة بالمسار السياسي، ووحدة التمثيل، وجدوى الخيارات المطروحة في واحدة من أكثر المراحل حساسية في تاريخ القضية الفلسطينية. إنّ تجاوز مرحلة "التّطبيل والتّهبيل" لا يمكن أنْ يتم عبر استبدال خطاب بآخر، بل يتطلب مراجعة سياسية شاملة تُعيد الاعتبار للسياسة بوصفها فعلًا مسؤولًا ومؤثرًا. وفي هذا السياق، تبدو الحاجة ملحّة إلى إعادة الاعتبار لبرامج سياسية واقعية، قابلة للتنفيذ والقياس، وقادرة على تحقيق نتائج ملموسة في مجالات الصمود، والحماية، وتثبيت الحقوق، بعيدًا عن الشعارات الفضفاضة أو الوعود غير القابلة للتحقق. كما يفرض الواقع ضرورة فصل الخطاب الديني والوطني عن الصراعات الداخلية الضيقة، وعن الأجندات الخارجية التي تحاول توجيه البوصلة الفلسطينية بما يخدم مصالحها الخاصة، فاختلاط السياسة بالمبالغة الخطابية، وتغليب التّطبيل على التحليل، لا يُفضي إلى تعزيز الموقف الوطني، بل إلى تشويه الوقائع وإضعاف القدرة على الفعل والتأثير. فالقضية الفلسطينية لا تحتمل مزيدًا من الارتهان، ولا يمكن إدارتها بمنطق المحاور، بل بمشروع تحرري جامع، يتطلب خطابًا مستقلًا ومسؤولًا يعكس المصلحة الوطنية العليا، ويُنصف معاناة الناس، ويُعيد الاعتبار للأولويات، ويُخضع الأداء السياسي لمعايير النقد والمحاسبة. وفي قلب هذه المراجعة، يجب إعلاء صوت الضحايا، ووضع المعاناة الإنسانية في صدارة الأولويات السياسية، والتوقف عن اختزال الإنسان كأداة ووسيلة، لا بوصفها مادة للتوظيف الخطابي، بل معيارًا لتقييم السياسات والقرارات. فالمعاناة في غزة، وفي عموم فلسطين، ليست تفصيلًا عابرًا، بل هي جوهر القضية وسببها وغايتها. إلى جانب ذلك، لا يمكن الحديث عن تجاوز الأزمة دون الشروع الجاد في بناء مؤسسات وطنية قادرة على استيعاب التعددية السياسية دون تمزيقٍ للنسيج الوطني، ومنظمة التحرير ممثله الشرعي والوحيد. مؤسسات تُدار بمنطق الشراكة والمُساءلة، وتُحصِّن القرار الوطني من التفرد والارتجال، وتُعيد الاعتبار للعمل الجماعي بوصفه شرطًا أساسيًا للصمود والاستمرارية. وفي ذات السياق، لا تبدو المشكلة في تعدد الآراء أو اختلاف التقديرات، بل في غياب الحد الأدنى من المسؤولية السياسية والأخلاقية في إدارة الخطاب العام. فحين تُستبدل المراجعة الجادة بالتبرير، والنقد البنّاء بالتّطبيل، تتحوّل السياسة إلى ممارسة معزولة عن الواقع، وتدخل القضية في حلقة استنزاف ذاتي لا تقل كلفة عن الاستهداف الخارجي، وقد تكون أشد فتكًا بمستقبل القضية الفلسطينية. هذه ليست لحظة تسجيل مواقف أو رفع سقوف خطابية، بل لحظة مراجعة وطنية شاملة، يُعاد فيها الاعتبار للسياسة بوصفها أداة بناء وتوجيه، لا وسيلة تضليل أو تعبئة فارغة، ولحظة انتقال من إدارة الأزمة إلى محاولة الخروج منها فإمّا مراجعة سياسية شُجاعة تفتح أُفقًا وطنيًا قابلًا للحياة، وخطابًا يرتقي إلى مستوى التضحيات والتحديات القائمة، أو استمرار في الدوران داخل مساحة التّطبيل والتّهبيل، وما ينتج عنها من وَقاح كبير، بكل ما تحمله من كلفة وطنية باهظة.
