البوابة 24

البوابة 24

يسرى الخطيب في "فصول وأكثر "

محمد نصار
محمد نصار

بقلم: محمد نصار

يقول جبران خليل جبران: ليس الشعر رأيا تعبر الألفاظ عنه، بل أنشودة تتصاعد من جرح دام، أو فم باسم. 
ويقول شاعرنا الكبير/ محمود درويش: أمشي بين أبيات هوميروس والمتنبي وشكسبير.. أمشي وأتعثر كنادل متدرب في حفلة ملكية.
وهو ما يعني أن الشعر لا يولد من نزوة عابرة ولا من تجربة نزقة، أو كردة فعل على حدث ما، بل هو خلاصة تجارب عدة وموهبة متقدة وقراءات متنوعة ونفس يسكنها الإبداع ويضنيها.
الشاعرة والكاتبة العزيزة/ يسرى الخطيب، واحدة من أديباتنا المبدعات، عرفناها منذ مجموعتها القصصية الأولى " والبحر يعطش أحيانا" الصادرة عام 2009، كاتبة تمتلك أدواتها الفنية والمعرفية، التي شكلت رؤاها، على نحو منحها القدرة على إبداع نصوصها القصصية، بشكل لافت ومميز لدى جمهور القراء والنقاد على حد سواء، ثم تابعت مسيرتها الإبداعية، فأصدرت عام 2016 مجموعتها الثانية " الكائن بيقيني" عن دار الكلمة بغزة وهي مجموعة من القصائد القصيرة جدا، ما بين الومضة والهايكو، قصائد امتازت بالتكثيف اللغوي والدلالي وأظهرت قدرة الكاتبة على توظيف أدواتها الفنية والإبداعية بشكل مميز، ثم جاء إصدارها الثالث " بين قوسين ونجمة" 2018 عن دار سمير منصور للطباعة والنشر، عبر مجموعة من القصص القصيرة جدا، أو القصة الومضة كما يسميها البعض، فكانت تجربة تحسب لها،  ثم تلتها روايتها الأولى "ابقي بعيدة" عن نفس الدار وهي الرواية التي أحدثت الكثير من الجدل والنقاش حولها، سواء من حيث المضمون الذي ناقش حياة المرأة في ظل اعتقال من يخصها، كالزوج أو الخطيب وحتى الحبيب وانعكاس ذلك عليها نفسيا واجتماعيا، أو من حيث التكنيك، الذي اعتمد في جله على التداعي واستدعاء الذاكرة، في إطار من اللغة الشعرية المكثفة ، وصولا إلى إصدارها الأخير " فصول وأكثر" الصادر عن دار الكلمة لهذا العام.
فصول وأكثر ديوان شعر يحاكي في قصائده، شعر الهايكو الياباني، الذي هو وليد حضارة عريقة.. ضاربة الجذور في عمق التاريخ والحضارة الإنسانية، هو شعر معروف في الأوساط العالمية والعربية، يمتاز بالقصر والتكثيف ومحاكاة روح الطبيعة والتراث، لاقى في بداية وصوله إلينا، أواسط القرن الماضي، الكثير من الصد والرفض، على اعتبار أنه لون محصور في الطبيعة فقط، فكان لشاعرنا الكبير/ عز الدين المناصرة رؤية مغايرة، ترى أن الطبيعة جزء من مفهوم الوطن والوطن جزء من الكون بتنوعه، فإذا كان الوطن أيديولوجيا، فإن العلاقة مع الطبيعة أيديولوجيا أخرى.
فكان أول من تحمس له ونادى به، رغم المعارضة التي قابلها من شعراء كثر، إلا أنه ظل ثابتا على موقفه، منظرا له ولعل أشهر قصائده في هذا الباب: 
سلاما آه يا ابتاه
 إن تعبوا، فلن اتعب
وإن ركضوا إلى أعدائهم طمعا
فلن اذهب.
إلا أن قصيدة الهايكو كأي فن أصيل، استطاعت بعد حين أن تجد مكانها على خارطة الشعر العربي وصار لها أشياع ومناصرون يحتفون بها ويكتبونها، أمثال المغربي د. الخطيبي، سامح درويش والشاعر السوري سهم بسام وإيناس اصفري وكثير غيرهم.
أما في غزة فأعتقد أن يسرى الخطيب هي الرائدة في هذا المجال، حيث كانت تجربتها الأولى في كتابها " بين الومضة والهايكو" 2016 ، ثم تلتها هذه التجربة بغنى أكبر وتجربة أشمل وأثر أعمق، إذ بدا واضحا في نصوصها، مدى إلمامها بهذا الفن العريق ودرايتها بالأسس والضوابط التي يرتكز عليها، ضف إلى ذلك، تجربة زاخرة ما بين القصة والقصيدة والرواية، وقراءات متعددة في شتى مجالات الإبداع، أهلتها لأن تمنح القصيدة شيئا من طابعها الخاص ومن روحها المهمومة بهذا الواقع، المسكون بكل أسباب الوجع ومنحتها القدرة على التقاط مضامينها وصورها، من زوايا فنية غاية في التصوير والإبداع والتعبير عنها بمنتهى الجمال والإدهاش. 
أثواب أمي
على الفزاعات
تقص حكاياتها للأرض.    
    
حروفي مبللة بالصقيع
أكتب قصائد حارقة
وفقا لتوقيت المطر

خيام اللجوء
تذرف الدموع
يا لبكاء السماء

بائعة التوت
جبينها يتصبب عرقا
القبلة على يدها سكر
         
 من خلال قراءة النماذج السابقة وغيرها الكثير مما يزخر بها الديوان ومن خلال مرورنا السريع على تجربتها الإبداعية في بداية المقال،  نقول أننا أمام مبدعة تعي ما للكلمة من قداسة وأثر وما للصدق الفني من دور في حمل المتلقي على التماهي معه وتقبل رسائله وما للكسب المعرفي من أهمية في تشكيل مخزون الكاتب وصقل ثقافته، فنحن أمام كاتبة قارئة، متعددة المواهب في الشعر والقصة والرواية، مسكونة بوجع المبدع، الدائم البحث عن المميز والتفرد.

البوابة 24