في حضرة الذاكرة... نادي الوافدين

بقلم:محمد جبر الريفي

.......................................... في نادي الوافدين بالقاهرة ، رأيت فيه أثناء دراستي الجامعية بالستينيات من القرن الماضي الملاذ المريح لقضاء أوقات من مساء كل يوم تقريبا ، لقد اعتدت أن اجلس في ركن منه بعيدا عن ضوضاء اللهجات المختلفة لطلاب من شتى بلدان العالم العربي والإسلامي كانوا يأتون إليه للتعارف وقضاء أوقات الفراغ هربا من الجلوس بين جدران الشقق ..في نادي الوافدين تعرفت على عائشة الطالبة الجزائرية في كلية الحقوق بجامعة القاهرة ..رأيت فيها طباع شعب الجزائر العربي المسلم من شدة وشجاعة ولمست فيها أيضا عاطفة متقدة ومشاعر جياشة لنصرة فلسطين والحفاظ على هويتها القومية العربية من الطمس والتزوير الذي تمارسه الحركة الصهيونية العالمية وكيانها العنصري الاجلائي حيث الشبة كبير بين الجزائر وفلسطين فكلتاهما تعرضا للقضاء على الهوية الحضارية بكل مكوناتها الوطنية والقومية والدينية ..

عائشة كانت مثقفة ثقافة عالية خاصة في الموضوع السياسي وكانت تحدثني دائماً عن ثورة الجزائر و عن نساء جزائريات كن يحملن السلاح مع المجاهدين ضد قوات الاحتلال الفرنسي ..قالت لي ذات مرة أن إحدى قريباتها وتدعى حفيظة استشهدت في أقبية التعذيب التي تكثر وجودها في العاصمة الجزائر وهكذا عرفت ان في الجزائر يوجد مناضلاث مثل جميلة بوحريد التي هي رمز حي لنضال النساء الجزائريات في سبيل حرية واستقلال الجزائر ..

قلت لها ذات مرة أن المرأة الفلسطينية مناضلة ايضا كالمراة الجزائرية يا عائشة وكان ذلك في يوم صادف فيه وقوع عملية فدائية بطولية في مدينة غزة قامت بها ليلي سعد (الريفي) بإلقاء قنبلة على دبابة إسرائيلية وقد تم اعتقالها وايداعها المعتقل فورا.. وها انا في عيد المراة العالمي الذي يصادف اليوم أوجه التحية للمرأة الفلسطينية المناضلة التي كافحت جنبا إلى جنب مع الرجل في معارك الثورة منذ انطلاقها عام 65 فاستشهدت ووقعت في الأسر وما زالت لها مكانتها السياسية والثقافية في المجتمع .. ......................................... .#..

في نادي الوافدين تعرفت ايضا على عثمان طه طالب سوداني في كلية تجارة عين شمس ..عثمان شاب أسمر ودود ومرح و الابتسامة كانت لا تفارق شفتيه وكان حين يأتي إلى النادي في المساء و يراني جالسا لوحدي يسحب الكرسي فورا ليجلس معي ومن حديثه عرفت انه مولع بالفن والأدب والسياسة قلت له ذات مرة : انا محب للأغنية السودانية يا اخ عثمان ، اعشق موسيقاها وعذوبة أنغامها لحظتها ابتسم ابتسامة عريضة كعادته وقال :الا يكفيك يا صديقي محمد مشاهير الطرب في العالم العربي عبد الوهاب وام كلثوم وفريد الأطرش وعبد الحليم حافظ ؛فقلت له : لكن الأغنية السودانية لها لون خاص يا عثمان يميزها عن الأغنية العربية في المشرق ..

عندها صمت قليلا ثم قال لي : إذن أي من المطربين السودانيين تحب سماعهم فأجبت على الفور وفي ذهني اغنية (ازيكم) فقلت له السيد خليفة يا عثمان أحب سماع اغنيته وهو يرقص ويقول بصوته الجميل ازيكم ..كيفنكم ..انا لي زمان ما شفتكم. . ......................................... .# في 5 يونيو حزيران 67 اندلعت الحرب العربية الإسرائيلية الثالثة وفي المساء كان الحماس باديا على وجوه الطلاب الوافدين من كل الجنسيات العربية والإسلامية خاصة نحن الطلاب الفلسطينيين .. كان المذياع في النادي يعلن بين الفترة والآخرى عن سقوط الطائرات الحربية الإسرائيلية ثم يتبع ذلك بأغان وطنية خاصة اغنية عبد الحليم حافظ المثيرة للحماس : ( يا بركان الغضب ..يا موحد العرب ...) ..

كنت جالسا مع زملائي من طلبة كلية دار العلوم وما زلت أذكر أسماءهم بعد ما يقارب الآن أكثر من خمسين عاما : شاكر الجرجاوي ومحمد خلف ومحمود القرماني وزكي داود وسالم شلاش المصري وغيرهم ايضا وحين أعلن المذيع عن سقوط طائرة إسرائيلية على شاطيء بحر غزة وقائدها اسمه مردخاي وقد تم اعتقاله من قبل قوات جيش التحرير الفلسطيني في القطاع انتاب كل من في النادي الشعور بالفرح اما انا فقد شعرت لحظتها بالحماس الشديد فوقفت بين طلاب النادي وصحت بأعلى صوت : الله أكبر ..الله أكبر وأخذت اصفق والجميع في القاعة أخذوا معي يصفقون .. بينما زميلي حسن طايع وهو طالب مصري همس في أذني فرحا بعد ذلك وقال مبتسما : أبسط يا عم سنحرر لكم فلسطين ..

اما في اليوم الخامس أو السادس للحرب لا أذكر فقد سمعت المذياع يعلن في النادي عن خطاب هام للريس فقلت له : ماذا سيعلن الريس يا حسن فأجاب فورا وهو مكفهر الوجه : عن تطورات الحرب ممكن ثم أردف قائلا باللهجة المصرية :(آمال عن إيه حيعلن ) وحينما عدت إلى الشقة متأخرا في ذلك المساء وكان قد خلي نادي الوافدين من الطلاب مبكرا وجدت العم مدبولي بواب العمارة يبكي ويمسح دموعه بفوطة خفيفة اعتاد أن يلفها على رقبته ..

اما الشغالة أم صبري المسكينة التي زغردت في اليوم الأول حين سمعت بسقوط إعداد كبيرة من الطائرات الحربية الإسرائيلية فقد استقبلتني على باب الشقة وكانت بجانبها إحدى الشغالات قائلة :لقد استقال الريس عبد الناصر يا سي محمد وقد أجهشت هي الأخرى بالبكاء ..

البوابة 24