حين تختنق "الذاكرة".. غزّة تفقد رائحة "الحياة"!

غزّة تفقد رائحة الحياة
غزّة تفقد رائحة الحياة

غزة/ صفاء كمال- البوابة 24:

هذه المرة، وعلى غير العادة في صباحات الخيمة المتكدّسة بأجساد إخوته المنهكين من تفاصيل الحرب، استيقظ مؤيد (25 عامًا) على رائحة قهوة!

"إنها قهوة، هذه حقيقة" قالها في نفسه، ورفع الباب القماشي مناديًا أمه. كانت بالفعل تُعدُّ في "الكنكة" كوبين! قال لها ضاحكًا: "قهوة يما"، فأجابته: "وجدت ملعقتين تحت الأوعية في زاوية الخيمة. هذه لي ولك، لا تخبر أحدًا".

ابتسم الشاب، وغاب بذهنه إلى البعيد. "إلى حيث كانت في غزة حياة" كما يصف. حين كان يصحو كل يومٍ على رائحة قهوة أمه، التي لا تشبه هذه المختلطة بنيران الحطب، "لكنها تبقى قهوة أمي" يستدرك.

كانت رائحة القهوة جزءًا من صباحاته، يرتشفها في فنجانه الخاص، وهو يتبادل أطراف الحديث مع أمه، هناك على أريكة الأرجوحة في شرفة بيتهم الكبير، حيث ثلاثة أشجار زيتونٍ كبيرة، تُطل عليهما، ونخلة.

هذه الرائحة عادت به إلى ذلك الزمن المُحبب، قبل السابع من أكتوبر 2023م، وقبل أن تختلف أجندة الروائح في تفاصيل أيامه. "غابت رائحة القهوة، وبقيت رائحة العرق تزكم أنفي وأنا نائم بين سبعة أفراد في خيمة رديئة التهوية" يكمل.

ويضيف: "لم نعد نميز بين الروائح فكلها كريهة. نادرًا ما يتسلل إلى أنفك رائحة محببة، طبخة مثلًا، رائحة زهرة، رائحة عطر فاخر، أو رائحة بخور"، مردفًا بأسى: "لا نشم اليوم إلا رائحة مياه الصرف الصحي بين الخيام، ورائحة البارود تطبق على أنفاسنا بعد كل قصف".

انتهت والدته من إعداد القهوة، وصبتها في فنجانٍ يده مكسورة. شرب منه رشفة، وغاب في عالمه القديم ذاك مجددًا. طلب منها أن تخبئ الباقي لأبيه، ذاك الذي أنهكه الهمّ بعدما فقد بيته في بيت حانون شمالي القطاع، واشتهى قبل أيامٍ رائحة القهوة.

في غزة، لا تُقصف فقط البيوت، بل تُقصف الحواس أيضًا. روائح كانت تسكن الذاكرة أصبحت دخانًا وبارودًا، والنَفَس الذي كان يحمل عبق الحياة، بات يحمل رماد الحرب. لم تعد الخسائر متعلقة بالأرواح والممتلكات فحسب، بل امتدت إلى أعمق تفاصيل الحياة اليومية، إلى حواس الإنسان التي تخلد الذكريات وتبني الانتماء!

فلافل وشاي بالنعناع

على أطلال الذاكرة، جلست علا زين الدين (30 عامًا) ذات جمعةٍ أمام خيمتها، تستحضر يوم عطلةٍ قبل أن تبدأ الإبادة! "حين كان الصباح يبدأ برائحة الفلافل المقلية" تقول لـ"البوابة 24".

وتضيف: "كنتُ أركل الغطاء عن جسدي، وأهرول ناحية المطبخ. أجد أمي تقليه وقد أعدّته بعد صلاة الفجر، وعلى عينٍ أخرى، إبريق شايٍ بالنعناع يغلي، ويقول لي: تعالي اشربيني، تعالي يا علا".

تضحك الشابة، بينما تربت على رأس طفلها ذو العامين، وتكمل: "مساكين أطفالنا، لم يعيشوا هذه الطقوس، ولم يبدأوا بترتيب ذكريات في عقولهم بعد.. أتمنى أن تنتهي الحرب وينسوا كل هذه التفاصيل المُرة، وأن يبدأوا بتشكيل ذاكرة روائح ومشاهد جديدة، طبيعية، آدمية، لا تشبه ما نعيشه الآن".

تزيد بحرقة، بعدما ذرفت دمعة: "كان صباح الجمعة يعني العائلة مجتمعة على المائدة، الشاي، البيض، وضحكات إخوتي". تسكت قليلًا، ثم تضيف: "اليوم، استيقظت على رائحة النايلون المحروق الذي نستخدمه لطهي القليل من العدس. لا شاي، لا إفطار، لا أحد في البيت."

رائحة "السّكِينة"

وعلى أطلال منزلها المدمر، في بلدة جباليا شمالي قطاع غزة، تروح ذاكرة الروائح لدى هنية مسعود (56 عامًا)، إلى حيث كانت رائحة الليمون والجوافة، وشجرة الفتنة تعبئ الجو، وإلى أصوات الطيور التي كانت تغرد أشكالًا وألوانًا بين الأغصان الوارفة.

تقول: "الآن لا شجر ولا طيور. الحديقة صارت ركامًا، ولا أشم سوى الغبار والدخان". بالنسبة لهنية، فقدان الحديقة ليس فقط فقدان ارتباطها باللون الأخضر، بل فقدان طقس يومي يربطها بالأرض والسكينة.

وعلى ذِكر السكينة، هناك من فقدها في رائحةٍ أخرى. رائحة البحر ورمله! حسن هشام (21 عامًا)، ابن مخيم الشاطئ غربي مدينة غزة، حيث البحر صديق السكان هناك. كان بمجرد عودته من المدرسة، يركض ناحية "الشط"، "حيث رائحة البحر ورماله، تتسلل إلى أنفي، وصوت الموج يداعب سمعي فأسترخي، وأحيانًا انام تحت ظل قماشةٍ تركها أحدهم لساعات" يقول.

ويضيف بحزن: "كانت رائحة البحر تعني لي الأمان. تعني أن كل شيء يمر طبيعيًا في حياتي، لا شيء تغير إذن أنا بخير، أما اليوم فلا أستطيع الاقتراب منه بسبب منع الاحتلال. الحرب أخذت منا بحرنا وحواسنا أيضًا".

اللمة تحت شجرة "ليلة القدر"

في زاويةٍ ثانية من أحد بيوت حي الشيخ رضوان، (قبل أن تدمره آلة القتل الإسرائيلية)، ترتبط ضحكات سلمى الهبيل برائحة الليل، المطعم بعطر شجرة "ليلة القدر" التي زرعتها أمها قبل سنين. قالت: "لهذه الرائحة ذكريات لا تُنسى. كنا كل ليلة نجتمع في باحة بيتنا المسوّر، وفي الزاوية تلك الشجرة تضحك معنا. أنا وأخواتي نتحدث ونضحك، بينما هي تنثر من عطرها في الجو، فتأخذ أمي نفسًا عميقًا وتضحك وهي تقول (اللــــه)".

اليوم، وعلى ركام بيتهم، نصبوا خيمة، جلسات الليلة كئيبة، بين القوارض ولسعات البعوض، والحشرات الغريبة. كل شيء غدا هنا غريبًا، حتى رائحة ليلة القدر التي مزقها القصف غابت. لا شيء يزكم الأنوف إلا رائحة مياه الصرف، والمجاري، ولا حديث بيننا إلا عن الخوف والألم".

رائحة النفايات المحترقة تقض صباحات سلمى (25 عامًا)، "كل يوم، أستيقظ على هذه الرائحة المُتعبة. والمشكلة لا نوافذ كي أغلقها. نحن نعيش تحت سقف من القماش، وخياراتنا محدودة"، متسائلةً بحرقة: "من يعيد لي صباحات رائحة القهوة؟ وخبز أمي؟ وطابون جارتنا؟ وضحكات أخوتي وليلة القدر؟".

تشويه "الذاكرة الشمّية"

هذه الشهادات ليست استثناءً، بل تلخيصٌ لما يعيشه أكثر من 2.3 مليون إنسان في قطاع غزة، خصوصًا في مراكز الإيواء المكتظة التي تؤوي أكثر من مليون ونصف نازح. هناك، تتراكم النفايات، تنهار شبكات الصرف الصحي، وتتسلل الروائح الكريهة إلى كل لحظة من حياة الناس، لتصير جزءًا من يومهم... ومن ذاكرتهم القادمة.

تقارير الأمم المتحدة تؤكد أن أكثر من 130,000 متر مكعب من مياه الصرف تُلقى يوميًا في البحر بسبب توقف محطات المعالجة، بعد نفاد الوقود وتدمير البنية التحتية. ووصفت الوضع في غزة بـ"الكارثي"، محذرة من تفشي الأمراض في المخيمات المصنوعة من الكرتون والنايلون، والتي لا تقي من برد ولا حر، ولا من روائح الموت.

لكن هذا الألم ليس فقط صحيًّا أو بيئيًّا، بل يتسلل إلى أغوار النفس. الأخصائية النفسية عبير حسين تشرح أن "الذاكرة الشمية" من أقوى أدوات التعلق والانتماء، وأن فقدان الروائح المعتادة يعني فقدان رابط بالأمان والبيت والطفولة.

وتضيف: "عندما تحل رائحة النفايات محل رائحة الخبز الطازج، فإن الأطفال يخزنون ذاكرة مشوهة للحياة، وهو ما يترك أثرًا نفسيًا مدمرًا على هويتهم."

الصدمة هنا ليست فقط فيما يُشتم، بل في أن الإنسان لا يستطيع التوقف عن الشم. لا يمكنه اختيار ألا يشتم الرائحة. وهذا ما يجعلها وسيلة قهر يومية، تُجبره على استنشاق الدمار دون انقطاع.

في غزة، حتى الهواء تحوّل إلى سلاح. والروائح التي كانت أدوات حياة، أضحت قنوات يومية للوجع. يتوق الناس فقط لأن يشموا رائحة قهوتهم، رائحة الخبز، أو نسمات البحر.. يطالبون بحياة بسيطة، لا أكثر.

حين تختفي الروائح، تختفي الذاكرة. تختفي الهوية. ويتحول الإنسان إلى جسدٍ يتنفس الألم بدل الأمان.

البوابة 24