غزة/ رشا أبو جلال- البوابة 24
في مخيم "النسيم" بمنطقة مواصي خان يونس، جنوبي قطاع غزة، تتشابك الخيام وكأنها أشرعةٌ مهترئة في بحرٍ من الرمال. هناك يعيش الطفل يوسف ذو الثلاث سنوات ونصف.
نزح يوسف من مدينة غزة عندما كان يبلغ من العمر عامين، نحو أكثر من 7 مراكز ومخيمات إيواء على مدار 14 شهرًا من الحرب الدموية المستمرة على قطاع غزة.
لم يعرف يوسف إلا الخيمة موطنًا، والرمال أرضًا، وتكية الطعام مصدرًا لوجباته اليومية. لم يدرك أبدًا معنى كلمة "منزل". لم يجلس على أريكة، ولم يحظَ ببعض المرح على أرجوحةٍ في حديقة.
عندما يرى عربات المياه تجوب المخيم، يركض خلفها بفرحٍ طفوليٍ ويصيح، وكأنه ينادي "أمنية" بعيدة المنال. يقول بكلماتٍ بسيطة: "أحب اللعب بالرمل.. ماما قالت في الملاهي يوجد مرجيحة كبيرة"، ثم يصمتُ قليلًا، قبل أن ينظر إلينا ببراءة ويتساءل: "إيش يعني ملاهي؟".
وتقول والدته لـ"بوابة 24": "عندما اندلعت الحرب، كان يوسف بالكاد يعي وينطق، لكنني لم أتخيل أبدًا أن يكبر في مكانٍ كهذا، ووسط هذه الظروف".
وأضافت: "كبُر يوسف، وصار يشعر، ويكتسب المعرفة من كل م يدور حوله. لم يلبس حذاءً جديدًا قط. كل ما يرتديه نصنعه من البقايا".
لا يعرف يوسف كيف يبدو البيت الحقيقي، ولا يدرك معنى أن تجتمع العائلة حول طاولة طعام، أو في غرفة جلوس. لا يُدرك معنى تلفاز، ولا يذكر طعم اللحم. "كل ما يعرفه عن الطعام، المعكرونة وأرز التكايا".
يوسف ومن هم في مثل عمره في مخيمات النزوح، جيلٌ لم يخبَر إلا الحرب والقصف والتهجير والدمار. يركضون خلف عربات الماء كما لو أنها حلم، ويقفون في طوابير التكايا كأنهم في مهرجانٍ يومي.
في عالمهم، الحذاء رفاهية، والبلاط حلم، واللحوم ذكريات من حكايا الكبار. يكبرون وسط الرمال، ويمشون حفاة فوق قصص لا يعرفون كيف ستنتهي.
وتسببت هذه الحرب باستشهاد أكثر من 44 ألف فلسطيني، بينهم ما يقارب 18 ألفًا من الأطفال، في وقتٍ ولد فيه (223) طفلًا رضيعًا واستشهدوا في حرب الإبادة الجماعية، و(837) طفلًا استشهدوا خلال الحرب، وعمرهم أقل من عام.
مجتمع مفتوح
وإلى جانب نمط الحياة القاسية التي نشأ عليها جيلٌ من الأطفال داخل خيام الإيواء، يواجه أرباب الأسر تحديًا آخر، يتعلق بالسلوكيات التي يكتسبها أطفالهم في مجتمعٍ مفتوح، تنعدم فيه الخصوصية والاستقلالية، وتتداخل فيها العلاقات والثقافات والعادات.
في مخيم "عمارة بلدية دير البلح" غربي المدينة الواقعة وسط قطاع غزة، يعيش الطفل سامي، ذو الثماني سنوات.
نشأ سامي بين الرمال والخيام عامًا وأكثر، مثل يوسف وغيره الآلاف ممن هم في مثل عمره، لكن التحدي الحقيقي الذي كان يواجه أبويه لم يتعلق بالفقر أو البرد فحسب، "بل بالمحافظة على تربيته وسلوكياته، وسط خليطٍ مجتمعي غير متجانس" تقول والدته بحسرة.
وتضيف لـ"البوابة 24": "حرصتُ على تهذيب طفلي، وتعليمه أصول التعامل منذ أن ولد. يتحدث بأدب ويلعب بسلام، لكن الحرب غيّرته، واختلاطه بأطفالٍ من كل حدب وصوب أحدث تغيرات جذرية في طريقة تعامله".
تشرح أمه بقهر: "أصبح يكرر كلمات نابية لم نقُلها أو نسمعها في بيتنا يومًا، ويكذب أحيانًا ليهرب من المشاكل. عندما سألتُه مرة عن مصدر هذه الكلمات، أشار إلى بعض أصدقائه في المخيم".
في تجمعات الخيام، الخصوصية حلم مستحيل. الجميع يسمع الجميع، والأطفال يتخالطون بلا قيود، ويتعلمون من بعضهم البعض. سامي، كغيره من الأطفال، وجد نفسه في بيئةٍ مفتوحة، وعفوية، بلا حدود واضحة بين الصواب والخطأ.
والده، أبو سامي، تحدّث عن معاناته في هذا الأمر، فقال: "لا أستطيع عزل أطفالي عن أطفال المخيم. جميعنا نعيش في مساحةٍ صغيرة، وأي محاولة للسيطرة على اختلاط أطفالي بالآخرين تبدو مستحيلة".
وأوضح أنه اضطر في بعض الأوقات لأن يكون صارمًا، رغم قناعته بصعوبة العقاب لطفلٍ يعيش أصلًا عذابات الإبادة، "كمحاولة منعه من اللعب مع بعض الأطفال، إلا أنني فوجئتُ بتسلله إلى خارج الخيمة للعب معهم!" يضيف.
ويتابع: "لا ألوم الأطفال الآخرين، فهم ضحايا بيئتهم مثلنا تمامًا، لكن ما صار إليه ابني يملأ قلبي بالحزن".
يشير أبو سامي إلى أن البيئة في المخيم -إلا لدى من رحم الله- لا تعطي الأهل خيارات كثيرة لتربية أطفالهم بالطريقة التي يريدونها، مردفًا بالقول: "لا يوجد خصوصية هنا، ولا يمكننا مراقبة كل شيء. الأطفال يستمعون إلى الشجارات بين الجيران، ويتأثرون بالكلمات التي يسمعونها. المشكلة ليست فقط في الكلمات السيئة، بل في غياب بيئة تعلم الاحترام والصدق والسلوك الراقي في أغلب الأحيان".
تحديات كبيرة
بدوره، يرى أستاذ علم النفس الاجتماعي د.درداح الشاعر، أن حياة الأطفال داخل مخيمات الإيواء "لا تشبه بالمطلق حياتهم في منازلهم قبل الحرب، لا من حيث نمط المعيشة، ولا من حيث السلوكيات المكتسبة، والأصدقاء المقربين، والشخصيات القدوات".
وقال لـ"بوابة 24": هذه الحياة تشكل تحديًا تربويًا كبيرًا للأسر، فيما يتعلق بتهذيب سلوكيات أبنائهم. البيئة المفتوحة في المخيمات، التي تفتقر إلى الخصوصية، تؤدي إلى اختلاط أنماط التربية بشكل غير متوازن"، مشيرًا إلى أن الأطفال يتأثرون بسرعة بسلوكيات أقرانهم، خاصة في ظل غياب الرقابة، ما يؤدي إلى اكتسابهم سلوكيات سلبية مثل الكذب، والسب، والعنف".
وأكمل: "الأطفال في هذه البيئة معرضون لما نسميه (التربية الجماعية غير الموجهة) حيث يصبح الشارع أو المخيم هو المربي الفعلي. هذا يؤثر على شخصية الطفل وسلوكه، ويخلقُ صراعًا بين ما يتعلمه داخل الأسرة وما يكتسبه من المجتمع المحيط".
وحذر د.الشاعر من تأقلم الأطفال مع السلوكيات السلبية المكتسبة، في حال لم يتم التدخل في الوقت المناسب، "أو استسلام الأبوين لواقع النزوح (..) هذا سيؤثر يا للأسف على مستقبل الطفل، سواءً في المدرسة، أو في البيت لاحقًا".
ونصح أولياء الأمور بالمحاولة قدر المستطاع، "بل والانتظام، في الدعم التربوي والسلوكي، أو إخضاع الأطفال لبرامج الدعم النفسي والاجتماعي داخل المخيمات، التي يمكنها أن تسهم في إكسابهم قيمًا حميدة، مثل الاحترام، والتعاون، والنظافة، وكيفية التعامل مع الآخرين" يزيد.
ومضى يقول: "الأهل في المخيمات بحاجة إلى توعية مستمرة أيضًا حول كيفية التعامل مع التحدّيات التي تواجههم في تربية أطفالهم"، ناصحًا بتقديم جلسات توعية يقدمها مختصون، تشرح لهم كيفية تعزيز السلوكيات الإيجابية لدى الأطفال، والتعامل مع السلوكيات السلبية بطرق فعّالة.
وحسب الخبير الاجتماعي، فإن المخيمات بحاجة إلى مساحات آمنة تُخصَّص للأطفال، مثل مراكز تعليمية وترفيهية. "هذه المساحات يمكن أن تساعد في عزل الأطفال عن التأثيرات السلبية في المخيم، وتشجعهم على اكتساب مهارات جديدة وقيم إيجابية" يقول.
وتابع الشاعر: "بعد انتهاء الحرب وعودة النازحين إلى بيوتهم أو انتقالهم إلى مناطق أكثر استقرارًا، يجب أن يتم العمل بشكل عاجل على توفير برامج تأهيل نفسي واجتماعي للأطفال. هذه البرامج ستساعد في التخلص من السلوكيات السلبية التي اكتسبوها خلال فترة النزوح، وستسهم في ترسيخ القيم الإيجابية".