غزة/ البوابة 24- رشا أبو جلال
على كرسي بلاستيكي متآكل الأطراف أمام شاطئ مدينة دير البلح، وسط قطاع غزة، يجلس الحاج إبراهيم الغصين (71 عامًا)، ويراقب غروب الشمس بنظرات مثقلة بالهموم وملامح أصابها الجمود.
قبيل الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في السابع من أكتوبر 2023م، كان الغصين يعيش حياةً بسيطة في منزله بشمال غزة. يتقاسمها مع ذكرياته وأحفاده الذين كانوا يملؤون المكان ضحكًا وصخبًا. لكنه الآن، يجد نفسه محاصرًا داخل خيمة بمساحة متر ونصف، في مخيم إيواء للنازحين وسط القطاع.
يتذكر الحاج الغصين ليلة نزوحه قائلًا: "كنتُ أستعد للنوم حين دوت الانفجارات بالقرب منا. هرع أبنائي وأحفادي يجمعون ما استطاعوا من أغراض. أما أنا، فجلست على طرف السرير، غير قادر على الحركة بسبب آلام مفاصلي. حاولت حمل حقيبة ملابسي، ولكني بالكاد استطعت حمل نفسي".
يروي الغصين مشاعر العجز والخوف التي سيطرت عليه خلال تلك اللحظات بالقول: "رأيتُ في عيون أبنائي خوفًا لا يمكن وصفه، كانوا حائرين بين إنقاذي أو النجاة بحياتهم. شعرت أنني عبء عليهم، وكرهت نفسي للحظة. انتهى بهم الحال يحملونني على بطانية".
داخل الخيمة، يعاني الحاج الغصين من ظروف حياتية قاسية. يقول: "مرض السكري وارتفاع ضغط الدم يجعلان حياتي أصعب، خاصة مع غياب الأدوية بشكل منتظم"، مضيفًا: "أحيانًا أشعر بدوار حاد مثل الدوخة، وأخشى أنني سأفارق الحياة هنا، وأن أدفن بلا مراسم دفن وجنازة وبلا كرامة".
على الرغم من كل هذا، يظل الغصين يتشبث بالأمل. يقول: "ربما نحن المسنون ضعفاء جسديًا، لكننا أقوياء بإيماننا. أريد أن أعود لبيتي، حتى لو كان مهدومًا. المهم أن أموت وأنا في مكاني، بين ذكرياتي وأحبابي".
حياة بين الركام والخيام
على باب خيمتها في منطقة مواصي خان يونس، جنوبي قطاع غزة، تجلس الحاجة فايزة عبيد (٧٣ عامًا). تغطي رأسها بشال أسود، وتنظر بصمت إلى الأفق، لا شيء يحيط بها سوى الصمت وألم الذكريات.
قبل الحرب، كانت الحاجة عبيد تسكن في بيت العائلة الذي يضم أبنائها وأحفادها في حي تل الهوا جنوبي مدينة غزة، هذا البيت الذي بُني على أكتافها، صار ركامًا بفعل الغارات الإسرائيلية.
تقول الحاجة عبيد بصوت متقطع وهي تحاول كبح دموعها لـ"بوابة 24": "عندما قررنا النزوح من منزلنا بسبب شدة القصف لم أستطع أن أفعل شيئًا. شعرت وكأن جسدي قد خذلني، كنت جالسة على سريري حين صرخ أولادي: "يما، بدنا نهرب" حاولت الوقوف، لكن ركبتيَّ لم تحملاني. اضطروا أن يحملوني وأنا أنظر إلى بيتي وأعلم أنني لن أراه مرة أخرى".
اليوم، تعيش عبيد في خيمة صغيرة بالكاد تتسع لجسدها المنهك. تعاني من آلام المفاصل ولا تستطيع المشي بسهولة.
تقول إن العزلة هي أصعب ما تواجهه، معقبةً: "كل واحد من أولادي مشغول بمحاولة توفير الطعام لأطفاله. لا أحد يجلس معي. أشعر أني عبء عليهم، وأتمنى لو أنني انتهيت مع بيتي، على الأقل كنت سأرتاح من هذا العذاب".
نجلها أحمد، الذي يبلغ من العمر 40 عامًا، يعبر عن حزنه وهو يشاهد صحة والدته تتلاشى أمامه يومًا بعد يوم: "أمي كانت امرأة قوية، لكنها لم تعد كما كانت، كل يوم تقول لي (يا بني، خلص، أنا تعبت. ما ضل شي أعيش عشانه)".
يتحدث أحمد عن صعوبة محاولاته رفع معنويات والدته "أحاول إقناعها أن الحرب ستنتهي، وأننا سنعود ونعيد بناء البيت، لكنها لا تصدق. تقول لي "حتى لو انتهت الحرب، هل سأبقى حية لأراه؟"، اليأس يقتلها، وأنا لا أملك شيئًا لأخفف عنها".
"أموت في بيتي ولا أغادره"
في أحد أزقة مخيم جباليا، يجلس الحاج يوسف العايدي (٦٨ عامًا) بجانب بوابة منزله، بجسده المنهك وقلبه المريض، لكنه يحمل إصرارًا قويًا في عينيه.
عاش العايدي حياته كلها في هذا المخيم، منذ أن كان طفلًا صغيرًا، يقول لـ"البوابة 24" إنه لا يتخيل نفسه بعيدًا عن المكان الذي شهد سنوات عمره كلها.
وبرغم إصراره على البقاء في منزله، إلا أن الحرب لم تترك له خيارًا. فقد نزح أبو يوسف ثلاث مرات خلال الحرب بسبب القصف العنيف ودخول جيش الاحتلال بريًا إلى المخيم.
يتحدث عن كل مرة غادر فيها منزله بمرارة: "المرة الأولى كانت الأصعب. سمعت أصوات الانفجارات قريبةً جدًا، وشعرت أن قلبي لم يعد يحتمل. حاول أبنائي إقناعي بالخروج، لكنني رفضت. كيف أغادر بيتي الذي بنيته بجهدي؟ لكن في النهاية، حملوني على كرسي بلاستيكي وأخرجوني بالقوة".
يروي العايدي تجربته مع مشقة النزوح قائلًا: "أنا رجل بطيء الحركة، كل خطوة أشعر وكأنني أحمل جبلًا فوق ظهري. كنت عبئًا على أبنائي، وكنت أرى في عيونهم الألم. كانوا يريدون حمايتي، وأنا لم أستطع أن أحمي نفسي".
عشية العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة يوم السابع من أكتوبر من العام 2023م، كان يقيم في دولة فلسطين نحو 5.6 مليون فلسطيني، منهم 321 ألف فرد بعمر 60 سنة فأكثر، يشكلون ما نسبته 6% من إجمالي السكان في فلسطين، في حين بلغت النسبة في الضفة الغربية نحو 6% مقابل 5% في قطاع غزة، بحسب تقرير صادر عن مركز الإحصاء الفلسطيني.
وأوضح المركز أنه ومنذ بدء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، استشهد نحو 50 ألف فلسطيني، منهم حوالي 7% من كبار السن.
وذكر أن حوالي 76% من كبار السن يعانون من أمراض مزمنة، بواقع حوالي 75% في الضفة الغربية، مقابل 78% في قطاع غزة.
الحرب والعُزلة
ويوضح إياد الشوربجي، الخبير النفسي والاجتماعي، أن الحرب تترك أثرًا عميقًا على صحة المسنين النفسية والجسدية، "حين يجدون أنفسهم فجأة خارج بيئتهم المعتادة، في مواجهة ظروف النزوح القاسية".
ويقول لـ"البوابة 24": "المسن يرتبط ارتباطًا وثيقًا ببيته ومحيطه، الذي يُعدّ ملاذه الأخير في سنوات عمره المتقدمة، لذلك فالنزوح بالنسبة للمسن ليس مجرد مغادرة منزل، بل هو اقتلاع من جذوره".
ورأى أن المسن الذي قضى حياته في بناء منزله، يشعر أن هذا البيت جزء من هويته وكرامته، وعندما يضطر لمغادرته، يشعر بأنه فقد كل ما يعنيه، ما يؤدي إلى مشاعر العجز واليأس.
وأضاف الشوربجي: "هذه المشاعر لا تقتصر على النفسية فقط، بل تمتد إلى الصحة الجسدية، الأمراض المزمنة مثل السكري وأمراض القلب تتفاقم بسبب الضغط النفسي والظروف الصعبة التي يعيشها المسنون في الخيام أو مراكز الإيواء، الحرمان من الراحة أيضًا، وانعدام الغذاء المناسب، وعدم توفر البيئة النظيفة يزيد من معاناتهم".
وأكد الخبير النفسي والاجتماعي أن الحرب تفرض على المسنين العيش في عزلة تامة، حتى وإن كانوا محاطين بعائلاتهم، "غالبًا ما يشعر المسن بأنه عبء على أبنائه، خاصة في ظل الظروف القاسية التي تجعل الأبناء منشغلين بتأمين الاحتياجات الأساسية. هذا الإحساس بالعبء يعمق مشاعر الحزن لديهم، ويجعلهم ينسحبون تدريجيًا من الحياة الاجتماعية".
ولفت الشوربجي النظر إلى أن المسنين في مثل هذه الظروف يصبحون أكثر عرضة للاكتئاب واليأس، مضيفًا "العديد منهم يصلون إلى مرحلة تمني الموت، ليس فقط بسبب الألم الجسدي، بل بسبب فقدانهم الأمل بقادم الأيام، أو شعورهم بعدم وجود مكان لهم في هذا العالم".