غزة.. فتيات أُجبرن على الزواج لتخفيف العبء وحماية "الشرف"!

فتيات أُجبرن على الزواج لتخفيف العبء وحماية "الشرف"
فتيات أُجبرن على الزواج لتخفيف العبء وحماية "الشرف"

غزة/ البوابة 24- صابرين الحرازين:

على فراشٍ بسيط داخل خيمةٍ من القماش المهترئ، جلست "م.ف" تفرك قهرها مع كومة الغسيل المؤجلة منذ أسبوع بسبب المطر.

الفتاة التي لم تكمل من العمر 18 عامًا بعد، عروسٌ جديدة. زُفّت قبل نحو شهر لعريسها الذي تقدم لخطبتها بعدما رآها في المدرسة التي نزحت إليها برفقة عائلتها من مدينة غزة.

"لم أكن أريد أن أتزوج" همست الفتاة بحزن، وتابعت بقهر: "لم يكن هذا حلمي أبدًا".

الفتاة التي كانت تحافظ على مستوىً متفوق في التعليم، لطالما حلمت بدخول الجامعة، وحتى الزواج، كان بالنسبة لها حلمٌ آخر، لا يشبه أبدًا ما تعيشه اليوم.

بدأت الحكاية، عندما صفعها والدها وبكى في الغرفة الصفية التي تتشاركها العائلة مع عائلة عمهم الشهيد. تقول: "لم أحتمل رؤيته يبكي. كنتُ أعرف أن رفضي الزواج تحت نيران الحرب ترف، ولهذا قبلت، برغم الفروق التعليمية والاجتماعية الكبيرة".

لوالد (م.ف) خمس بنات وولدين، وقد خسر تحت القصف في مدينة غزة بيته وماله، ولم يعد قادرًا على الإيفاء باحتياجات أسرته التي كبرت فجأة، بعد أن صار مسؤولًا عن أطفال أخيه الأصغر، الذي استشهد مطلع يناير الماضي.

تحكي الفتاة عن عرسها: "كان كأنه مأتم. زوجي طيب وحاول أن يجعلني أفرح لكنني لم أستطع. ليس هذا ما حلمتُ به، وليس هذا مَن حلمت به".

وتقول: "ما دفع أبي للقبول، خوفه علي. وخشيته من أن يلحق بعمي دون أن يطمئن بأنني سأعيش في كنف رجل يعيلني".

تحكي الفتاة عن تلك الحقبة بقهر، وتكمل: "لما رفضته، ظن والدي أنني على علاقة بأحد، أو أنني عاهدته على الزواج، فبدأ بالضغط علي بشدة، بدعوى الحرب، والنفقات التي صارت تثقل كاهله".

تزوجت (م.ف) من محمد، الذي يكبرها بخمسة أعوام، وهو حاصل على شهادة الثانوية العامة فقط، ويعمل في "أي شيء" كما تقول، أو "بلقّط رزقه" بعبارةٍ عامية دارجة.

وتكمل: "لا أتخيل هذه المسؤولية التي أُلقيت على عاتقي فجأة. لم أكن أتخيل أن أتزوج بهذه الظروف، ولا في هذا المكان. زوجي طيب وقال عندما تنفرج الأحوال سيسمح لي بإكمال تعليمي، لكنني أعرف جيدًا أن هذا لن يحدث، فلا الحال سيتحسن ولا المسؤوليات القادمة ستتيح لي ذلك".

صمتٌ من قهر

وعلى فراش العرسان البسيط، تجلس أم أحمد بجوار كنتها هناء التي تشاركها الخيمة ذاتها، وتفصلها عنها قطعة قماش.

تروي السيدة التي لم تتم الخمسين بعد، كيف زوجت اثنين من أبنائها في ظل الحرب على غزة، "وقد دفعها لذلك رضا معظم العائلات بمهور قليلة لبناتها، والتكاليف البسيطة للزفاف".

تنظر إلينا هناء (16 عامًا) بقهر، وتبتسم بحرقة دون أن تستطيع التعليق، لكن نظراتها كانت كفيلةً بشرح حزنها ووجعها.

تعود أم أحمد لتكمل: "مهر كل عروس كان ألف دينار، وقد اكتفيت بتقديم 300 لكل واحدة نقدًا لشراء أساسيات الجهاز، أما الباقي فمقسطة كما اتفقنا مع العائلتين".

وتشير إلى أنها "لو لم تزوج ابنيها الآن، فإنها لن تتمكن من ذلك ولو بعد عشر سنين، كونها ستحتاج إلى منزل، وشقق خاصة، ومهور أعلى، وحفلات زفاف، وغير ذلك من تكاليف لا يمكن أن تتمكن من توفيرها في حال انتهاء الحرب".

في يد هناء اليمنى، دبلة، تقول إنها "ذهب صيني" اشترتها حماتها لها بسبعة شواقل، "تشبه تمامًا التي اشترتها لابنتها التي زوجتها قبل ثلاثة أسابيع فقط".

تبلغ ابنة أم أحمد من العمر (17 عامًا)، وقد زوجتها -كما تؤكد- لتخفيف ثقل الحرب عن كاهلها، "فأنا لدي ثمانية أبناء، ولا أحد يسأل بهم، وأعتمد في إطعامهم على التكية. أما أولادي الكبار ففقدوا مصادر أرزاقهم، وهذا ما دفعني لتزويجهم الآن" تضيف بانفعال.

تحدثنا هناء عن عرسها، فتقول: "وضعت لي أمي بعض المكياج، ولبست فستانًا استعرته من جارة لنا في بيتنا الذي قصف. فستان عادي لونه أبيض وليس فستان زفاف. زغردت لي النساء بصوت خافت احترامًا لدماء الشهداء، وانتقلت على الفور إلى الخيمة مع عريسي".

سألتها مراسلة "البوابة 24" ما لو كانت سعيدة بزواجها، فأجابت بعد أن نظرت إلى حماتها، وكأنها تبتلع الكلمات خوفًا: "كنت أتمنى أن أكمل تعليمي" وصمتت.

لخدمة أمه..

وتبدو (ت.ع) على حالٍ مزرية، برغم أنها "عروسٌ" لم يمضِ على زفافها شهران! أمام نار الحطب كانت تجلس بثوب صلاةٍ قديم، بينما وجهها طاله "هباب الدخان" الذي كان يتطاير من تحت وعاء طبخٍ كبير، تعد فيه العدس.

من داخل الخيمة، جاء صوتٌ خافتٌ يناديها. إنها حماتها المريضة، التي عجّل خطيبها (وهما مخطوبان منذ ما قبل الحرب) بالزواج بها لأجل رعايتها والقيام على خدمتها.

تقول: "ضغط علي أبي كثيرًا كي أوافق على الزواج خلال الحرب، بعد أن طال أمدها ولم تنته. كنتُ أحلم بعرس كبير، وزغاريد، وليلة حناء بصحبة صديقاتي، وسهرة عريس، وجلسة تصوير مميزة. كنت أحلم بفستانٍ أبيض بذيلٍ طويل، وطرحة موشحة بالزهور البيضاء الصغيرة. لكن هذا كله لم يحدث. التقطت لي شقيقة العريس صورة بهاتفها المحمول، واستأجرت فستانًا عاديًا خرجت به من خيمة أهلي إلى خيمة زوجي".

لم تجد (ت.ع) إلا الموافقة خيارًا، أمام ضغط عريسها بتسريع العرس، "لا سيما وأن والده استشهد قبلها بشهرين، وشقيقه أيضًا، وكان يريد مني أن أكون سندًا له في رعاية أمه كونه بقي معها وحيدًا".

وتضيف: "أنهك حماتي النزوح المتكرر والحرب والفقد، وهكذا بدأت حياتي، بين مطرقة الحرب وسندان المسؤولية الملقاة على عاتقي".

على استحياء تصف حياتها: "ليتها لم تكن، تلك الساعة التي خُطبت فيها. كنتُ طالبة في السنة الأولى بالجامعة، ولا أظن أنني سأكمل دراستي أبدًا الآن".

أثمان مدفوعة سلفًا..

وتروي نادية (49 عامًا) بصوتٍ ممزوجٍ بالأسى، معاناة ابنتها (17 عامًا)، التي اضطرت لقبول عريسٍ تقدم لخطبتها بعد استشهاد أبيها وشقيقيها الصغيرين، لتخفيف العبء، والاطمئنان عليها في بيت رجلٍ يعيلها.

تقول: "دفع لها مهرًا 400 دينار وحسب، اشتريت لها بها عقدًا من الذهب وخاتم. حتى أنها انتقلت لخيمة زوجها بملابسها المتوفرة، وبدون أي تجهيزات تذكر".

وتردف: "بعد أيام قليلة، اتصلت بها أكثر من مرة، لكن الهاتف لم يرد. وبعد ساعاتٍ من القلق والحرقة، ذهبتُ إلى خيمتها لأطمئن، فأخبرتني أن زوجها اضطر لبيع هاتفه من أجل سداد دينٍ طالبه به صاحبه أمس".

وتتابع: "وكانت الطامة الكبرى، عندما ذهبتُ لأزورها مرة، فوجدتها قد افتتحت بسطة صغيرة لبيع سكاكر تصنعها بنفسها من السكر الذي تحصل عليه من المعونات. اكتشفتُ أنني تسرعت، وأن حساباتي كلها كانت خاطئة، وأن ابنتي لو ماتت في حضني، لكان خيرًا من عيشة الذل هذه".

تعنيف جسدي

وبدافع ما أسمته "الخوف عليها" اختارت أم حنين تزويج ابنتها بعد محاولات شخصٍ متكررة للحاق بها في المخيم، عادةً الزواج حلًا ينقذها من صعوبة الحياة والظروف القاسية، "وحتى من تشويه سمعتها بين أهل المخيم" تعقب.

تقول حنين: "بين ليلةٍ وضحاها قررت مصيري، ورسمت ملامح لحياةٍ لم أتخيلها في أسوأ كوابيسي. أنا هنا أعيش مشكلات اجتماعية ونفسية عميقة، بدءًا من السكن المشترك في الخيمة، وتدخلات الحماة والعم، وشخصية زوجي صعبة المراس التي لم تكن فترة خطوبتنا (ولم تزد على شهر) كافية لمعرفتها".

وتشير إلى تدخل الجيران أكثر من مرة لحل مشكلاتها مع زوجها، الذي يعتمد التعنيف الجسدي أسلوبًا لثنيها عن معارضته أو عصيان طلباته. تزيد: "ذهبت لخيمة أمي مرارًا، ومكثت عندها أيامًا طويلة، وفي كل مرة تتعهد عائلة زوجي بردعه، ويعدني هو بأن يتغير، لكنني أجد في كل مرة ينتظرني حال أصعب".

أرقام وشهادات رسمية

ووفق مدير عام المكتب الإعلامي الحكومي بغزة، إسماعيل الثوابتة، فإن اتخاذ خطوة الزواج تحت الإبادة، تواجهه تحديات استثنائية، تشمل بالإضافة إلى خطر الموت، ضغوطًا نفسية واقتصادية واجتماعية، ومسؤولات إضافية.

وقال: "شهدت معدلات الزواج زيادة ملحوظة خلال الحرب، مقارنة بأعوام سابقة، حيث سجلت المحاكم لدينا في قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر/ تشرين أول 2023م، حتى الآن أكثر من (18,800) عقد زواج".

وأشار إلى أن الزواج المبكر، ظاهرة عادت لتطفو على السطح في ظل الحرب على غزة، حيث يلجأ الشبان والفتيات في إطار استكمال الحياة البشرية للزواج، في إطار تأمين مبدأ الاستقرار في ظل غياب الأمن، مشيرًا إلى انهيار زيجات حديثة، نتيجة الضغوطات الهائلة على الزوج والزوجة فيما يتعلق بتفاصيل الحياة تحت وطأة الحرب وتبعاتها من خوف وفقد وبطالة.

من الجانب النفسي والقانوني

يعدّ الزواج، التغير الأكبر الذي يحدث للفرد خلال حياته، حيث يشارك جميع تفاصيله الخاصة مع شخص آخر بقية العمر. ولكي ينجح هذا الزواج، يجب أن يُبنى على القبول والحب والتفاهم بين الزوجين، وأن يكونا قد اختارا بعضهما بحرية تامة ووعي كامل دون الضغط عليهما من قبل أحد لقبول.

ويعرف الزواج القسري، بأنه "الزواج دون موافقة حرة وتامة لأحد الأفراد أو كليهما"، وعادةً ما يفرض على الفتيات.

هذا الزواج موجود منذ القدم ولذلك قامت الديانة المسيحية ومن بعدها الديانة الإسلامية بتحريم الإجبار على الزواج بشكل واضح، واشترطتا موافقة طرفي الزواج لكي يكون زواجًا صحيحًا دينيًا، وذلك بسبب الآثار المؤلمة التي قد يعود بها الإجبار على الحياة الزوجية والأسرية.

وتنص الفقرة الثانية من المادة (16) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، على أنه: "لا يُعقَد الزواجُ إلاَّ برضا الطرفين المزمع زواجهما رضاءً كاملًا لا إكراهَ فيه".

ويتحدث أخصائيون نفسيون، عن آثار صعبة للزواج القسري، على الأسرة والمجتمع، أولها، سوء معاملة الزوجين لبعضهما البعض في معظم الأوقات، وتدني مستوى الصحة لدى الزوجة بشكل خاص بسبب ما قد تتعرض له من تعنيف جسدي وجنسي ونفسي.

وكل ذلك ينعكس بشكل كبير على حياة الأطفال داخل الأسرة ما قد يسبب لهم الكثير من الاضطرابات النفسية والاجتماعية على المدى البعيد، "وهم الضحية الأكبر في هذا النوع من الزيجات، إذ يكبرون في وضع متوتر يجعلهم يبحثون بالخارج عن حاجاتهم العاطفية، دون وجود مرشد لهم ما قد يسبب دمار حياتهم أيضًا".

البوابة 24