الخوف من الاستهداف مع أسرهن أكثر ما يؤرقهن.. أمومة تحت القصف: كيف تكتب الصحفيات من قلب الحرب؟

صحفيات في زمن الحرب
صحفيات في زمن الحرب

رشا أبو جلال

على مدار أكثر من 16 شهرًا من الحرب الضارية التي مزقت قطاع غزة، وجدت نفسي وعائلتي مجبرين على الفرار تسع مرات، هاربين من جحيم القصف الذي يلتهم كل شيء. كنا نبحث عن ملاذ آمن يحمي أجسادنا المنهكة من نار الموت، وعن بقعة قرب مصادر شحيحة للماء والطعام، في رحلة نزوح قسري تتكرر مع كل انفجار جديد، وكأن الحرب مصممة على مطاردتنا بلا هوادة.

أخيرا انتهى بنا المطاف بعد رحلة النزوح القسري هذه في خيمة صغيرة داخل مجمع خيام غير منظم غرب مدينة دير البلح وسط قطاع غزة. هنا، نحاول النجاة يومًا بعد يوم وسط ظروف قاسية وحياة مليئة بالتحديات.

كوني صحفية أحمل مسؤولية نقل معاناة شعبي إلى العالم، لا يعفني من تحمل مسؤولياتي كأم تجاه أطفالي الخمسة أيضا.

مع أول خيوط الفجر، أفتح عيني على يوم جديد محفوف بالمعاناة، أجر جسدي المنهك من ليلة باردة تسللت برودتها إلى عظامنا كطعنة خفية. أبدأ يومي في معركة صغيرة مع آثار النزوح، أرتب الفراش الذي بات مسكنًا دائمًا للعث والقمل والنمل، وأحمله للخارج علّه يلتقط أنفاس الشمس، في محاولة يائسة لطرد الحشرات التي أصبحت رمزًا لحياتنا الموحشة تحت وطأة هذه الحرب التي لا ترحم.

سريعا ما انضم مع عدد من جاراتي لنبدأ بعجن الدقيق. لا شيء يضاهي دفء الخبز الطازج، رغم بساطته. نوقد فرنا طينيا باستخدام أغصان الأشجار الجافة التي نجمعها. وأعدّ يوميا حوالي 20 رغيفا من الخبز، وهو بالكاد يكفي لسد جوع أطفالي لمدة يومين.

اللحوم.. ترف منسي

عادة ما تكون وجبة الإفطار من صنف طعام واحد مثل الزعتر أو الجبن، فتنوع الأصناف يعد ترفا نسيناه منذ السابع من أكتوبر 2023.

تقول ابنتي شام (9 سنوات): "اشتقت لتناول قطعة لحم طازجة، اشتقت لحفلة شواء كالتي كنا نقوم بها قبل الحرب".

هذه الحرب لم تكتفِ بهدم بيوتنا وتشريدنا، بل امتدت لتقتل كل مظاهر الحياة، حتى الثروة الحيوانية. الدواجن والمواشي نفقت بسبب القصف أو الجوع، ولم يعد هناك أي أثر للحوم في الأسواق.

أصبحت أسترجع في ذاكرتي تلك الأوقات التي كنت أعد فيها الطعام لعائلتي، وأتساءل: هل سيعود يوم نتذوق فيه اللحم مجددًا؟ أم أن هذا الحلم أيضا دفنته الحرب تحت أنقاض غزة؟.

كل يوم تنتظرنا تحديات كبيرة لتوفير احتياجات الأسرة، التي نحصل عليها بمعاناة شديدة، إذ أن أقرب نقطة لبيع مياه الشرب تبعد عنا نحو 300 مترا، يتوجب على كل أسرة اصطحاب جالونات المياه الصغيرة لتعبئتها وحملها كل هذه المسافة كل يوم.

الأمر ليس مجانيا، فقد تضاعفت أسعار مياه الشرب أربعة أضعاف منذ بدء الحرب. كان ملء حاوية 20 لترا يكلفنا شيكلا واحدا فقط، أما الآن فهو يكلف أربعة شواكل على الأقل ورغم ذلك، لا يمكننا التأكد من نظافة هذه المياه، إذ تعمل محطات التنقية بأقل طاقتها نظرا للطلب الهائل عليها.

الآن أبدأ الاستعداد للعمل، أرسل هاتفي المحمول إلى نقطة شحن الهواتف التي تعمل بالطاقة الشمسية بسبب قطع إسرائيل الكهرباء بشكل كامل عن قطاع غزة منذ بدء الحرب.

أودّع أطفالي وأبدأ رحلتي سيرا على الأقدام بحثا عن أقرب مكان يتوفر فيه الانترنت لأداء عملي كصحفية.

عملي ليس مجرد وظيفة، بل هو أمانة أحملها على عاتقي وسط الدمار والقهر. أكتب عن واقع ينسج مآسيه كل يوم أمام عيني، عن معاناة النازحين الذين انتُزعت منهم منازلهم وأُلقي بهم في العراء، وعن كفاحهم المستميت لتأمين أدنى مقومات الحياة. أبحث بين الأنقاض والرمال عن قصص تُجسد الألم الإنساني، وأُعيد رسمها بكلمات تُجهر العالم بحقيقة الجحيم الذي يعيشه سكان غزة.

التنقل داخل القطاع بات مغامرة محفوفة بالخطر والتحديات في ظل شلل الحركة الناجم عن انعدام الوقود. أحيانًا أضطر لركوب عربات يجرها ما تبقى من حيواناتٍ هزيلة للوصول إلى المستشفيات أو مواقع الأحداث، حيث يقبع الألم في كل زاوية.

وعند غروب الشمس، أعود إلى خيمتي المثقلة برائحة الرمل والوجع، لتحضير الطعام لأطفالي. وجباتنا لا تعدو كونها فتاتًا بسيطًا، أرزًا باردًا أو قليلًا من سلطة الطماطم والخيار. كل لقمة نأكلها تبدو وكأنها تصرخ بالغياب القاسي للحياة الطبيعية، مُذكرة بأن الحرب لم تترك لنا سوى الجوع والعجز.

عندما يحل الليل، نجتمع كعائلة حول وهج نيران الحطب التي يشعلها زوجي، كأنها محاولة خجولة لإضاءة ظلامٍ فرضته الحرب على حياتنا. نجلس في دائرة صغيرة، نتقاسم قصص يومنا كما نتقاسم ألمنا، أحيانًا نختطف لحظات ضحك نادرة على مواقف بسيطة، نحاول بها أن نكسر ثقل المأساة.

لكن سرعان ما تهزمنا الذكريات، فتفيض العيون بدموعٍ مرة حين نستحضر الأحلام التي سُحقت تحت أنقاض منازلنا. وبحلول الساعة التاسعة، نستسلم للإرهاق ونخلد للنوم فوق فراش من القلق، استعدادًا ليوم جديد من الصراع مع قسوة الحرب ووحشية البقاء.

الخوف من الاستهداف

في منطقة المواصي جنوب قطاع غزة، تعيش شيماء مراد (27 عاما)، برفقة عائلتها المكونة من 5 أفراد. شيماء صحفية مستقلة تعمل مع العديد من وسائل الإعلام المحلية والدولية.

تصف شيماء الحياة في الخيام، وتقول: "العيش فوق الرمال أشبه بالعيش في صحراء قاسية لا ترحم. كل صباح أستيقظ على صوت الرياح وهي تعبث بخيمتنا الهشة، وحبات الرمل التي تتسلل إلى كل شيء: الطعام، الفراش، وحتى أحلامنا".

وأضافت: "في الليل، يتحول البرد إلى عدو صامت يتسلل إلى عظامنا. أطفالي يرتجفون من البرد، ورغم كل محاولاتي لتدفئتهم، أشعر بالعجز كلما نظرت إلى وجوههم المتعبة".

شيماء التي وافقت على الحديث معنا شريطة عدم ذكر اسمها بشكل كامل، تقول إنها خائفة من الاستهداف الإسرائيلي، إذ يستشهد زملائنا الصحفيين كل يوم بسبب شهاداتهم حول حرب الإبادة الجماعية بغزة التي يقدمونها للعالم.

تقوم شيماء بتغطية الأحداث الصحفية من داخل خيمتها، تواصل عملها عن بُعد في ظل ظروف قاسية للغاية.

وقالت شيماء: "الحرب والحصار يضعان ضغوطًا هائلة على الأسر، مما يجعل مهمة الجمع بين الصحافة والأمومة في وقت واحد صعبة للغاية. ورغم ذلك، أحاول التكيف والتوازن بين مهامي الصحفية ومتطلبات الحياة الأسرية".

أبرز أوجه المعاناة التي تواجهها شيماء تتجسد في توفير احتياجات أسرتها في ظل الأوضاع الصعبة. مع النقص الكبير في المواد الأساسية مثل الغذاء والدواء، بالإضافة إلى انقطاع الكهرباء والإنترنت بشكل مستمر، تصبح معوقات عملها الصحفي أكثر تعقيدا.

وأضافت: "في كثير من الأحيان، يتعين علي التعامل مع الإنترنت البطيء الذي يعيق قدرتي على إرسال تقاريري أو متابعة الأخبار بشكل سريع. هذه التحديات تجعل من الصعب ممارسة العمل الصحفي كما كان في السابق".

فيما يتعلق بالتوازن بين عملها الصحفي ومسؤولياتها كأم، توضح شيماء أنها تعتمد على تنظيم وقتها بشكل صارم. تخصص ساعات محددة للعمل الصحفي وساعات أخرى لرعاية أطفالها. في بعض الأحيان، تضطر للعمل في ساعات الليل بعد أن ينام الأطفال لتتمكن من إتمام مهامها الصحفية دون التأثير على واجباتها الأسرية.

أما عن مشاعرها عندما تترك أطفالها وتذهب للعمل، فتقول شيماء "إن الشعور دائما ما يكون صعبا، خاصة في ظل الأوضاع الحالية التي تشهدها غزة من تزايد المخاطر على المدنيين".

تكتب شيماء دائما تحت اسم مستعار، تبرر ذلك بالقول: "أصبح من الضروري اتخاذ هذا القرار لحماية حياتي وحياة من حولي. هناك خشية دائمة من الاستهداف في غزة، ووجود صحفية بين النازحين قد يعرضهم للخطر، مما يجعلني مضطرة لاتخاذ تدابير لتأمين سلامتي وسلامة أسرتي".

وخلال حرب الإبادة، قتل الاحتلال الإسرائيلي أكثر من 200 صحفيًا بينهم 22 صحفية منذ اندلاع الحرب.

إيمان الشنطي.. شهيدة الكلمة

من بين أولئك الصحفيات، إيمان الشنطي التي اغتالها الجيش الإسرائيلي في 11 نوفمبر 2024 برفقه زوجها وأطفالها الثلاثة ألمى وبلال وعمر.

"معقول أننا لا نزال أحياء حتى الآن".. كانت هذه الكلمات آخر ما نطقت بها إيمان عبر منشور لها في فيسبوك. لم تمض سوى ساعتين اثنتين فقط حتى باغتتها غارة إسرائيلية استهدفت منزلها في حي الشيخ رضوان شمال غرب مدينة غزة.

كانت الشنطي تعمل مذيعة ومقدمة برامج في إذاعة صوت الأقصى، واشتهرت بتقديم برنامج “أصل القصة” على منصات التواصل الاجتماعي.

خلال الحرب، ركزت الشنطي على توثيق أوجه المعاناة التي عاشها الفلسطينيون في شمال قطاع غزة، حيث واجهت تجربة النزوح المتكرر بين أحياء مدينة غزة في سعي دائم نحو الأمان.

ورغم التهديدات الإسرائيلية المستمرة لسكان شمال القطاع، رفضت النزوح إلى الجنوب، متمسكة بالبقاء في مدينتها مهما كانت التحديات.

قبل أيام قليلة من استشهادها، كتبت الشنطي إحدى تجاربها في هذه الحرب عبر صفحتها في فيسبوك: "ظهر اليوم ظهرت في منطقتي طائرة “الكواد كابتر” كظل قاتم يخيم على القلوب. ما كان يومًا أداة للتصوير، صار كيانًا يحاصر البيوت ويراقبها بصمت مريب. صوت مراوحها قرب نافذتك يكفي ليخبرك: "أنا هنا… أحاصرك".. تتلاعب بالفضاء، لكنها لا تلهو؛ قنابلها الصوتية وأسلحتها الدقيقة تجعلها آلة موت تحلق فوقك. تتحرك بخفة كأنها لعبة غميضة، لكنك تعلم أن خسارتك حتمية. نحن مجرد أهداف صامتة لجندي بعيد، يتابع شاشته ببرود، متلذذًا بساديته، يحول حياتنا إلى حقل تجارب".

جريمة حرب مكتملة الأركان

وقال رئيس الهيئة الدولية لدعم حقوق الشعب الفلسطيني (حشد)، صلاح عبد العاطي، إن استهداف الصحفيين الفلسطينيين يمثل جريمة واضحة تستوجب المحاسبة والعقاب بموجب القوانين الدولية التي تضمن حماية الصحفيين، خاصة في أوقات النزاعات المسلحة.

وأكد أن القانون الدولي، من خلال المادة 79 من البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف لعام 1977، والمواد المتعلقة بحماية المدنيين في اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949، إلى جانب قرارات مجلس الأمن، بما في ذلك القرار رقم 2222 لعام 2015، ينص على أن الصحفيين يتمتعون بوضع المدنيين ويجب حمايتهم من أي هجوم أو استهداف متعمد.

وأوضح عبد العاطي أن إسرائيل تستهدف الصحفيين الفلسطينيين بشكل منهجي ومتعمد، دون أدنى اكتراث بالقوانين والمواثيق الدولية، مستفيدة من الدعم السياسي والقانوني الذي تحصل عليه من الولايات المتحدة الأمريكية، والذي يشجعها على التصرف كدولة فوق القانون الدولي.

وأضاف أن هذا الاستهداف ليس مجرد حوادث فردية، بل هو جزء من سياسة ممنهجة تهدف إلى ترهيب الصحفيين وإسكات أصواتهم، لمنعهم من كشف الجرائم والانتهاكات التي ترتكبها قوات الاحتلال بحق الشعب الفلسطيني.

وعبّر عبد العاطي عن استغرابه من الصمت الدولي إزاء هذه الجرائم الممنهجة، مطالبًا المجتمع الدولي بالتحرك الفوري لحماية الصحفيين الفلسطينيين وضمان مساءلة الجناة.

كما دعا المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية إلى الإسراع في اتخاذ خطوات عملية لإنجاز التحقيقات المتعلقة بالجرائم المرتكبة على الأراضي الفلسطينية، بما في ذلك استهداف الصحفيين، الذين يدفعون حياتهم ثمنًا لنقل الحقيقة وكشف معاناة الشعب الفلسطيني.

البوابة 24