غزة/ البوابة 24-الاء أبو عيشة:
أمام خطٍ كاملٍ من الركام، أخيرًا وجد محمد الكحلوت علامةً أخبرته بأنه بيته المُسوَّى بالأرض هنا. "بقايا كرسي خشبي كانت تفضّل أمي الجلوس عليها تحت شجرة الزيتون" يقول.
على مدّ النظر لا يمكن تمييز المسافة التي امتدَّ عليها الركام في شارع بيته الكائن بمخيم جباليا شمالي قطاع غزة. غصّةٌ كبيرة لم تتمكّن أمّه المسنّة من ابتلاعها، فافترشت الأرض وبكت.
تحكي السيدة التي تجاوز عمرها ستة عقود ونصف لـ"البوابة 24"، كيف أفنت عمرها برفقة زوجها في بناء البيت، وكيف أسست لأبنائها الذكور شققًا ليتزوّجوا فيها على مدار 40 سنة، "وكله راح بلمح البصر" تضيف بحرقة.
بعد دخول إعلان وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ، بدأ حجم الكارثة الإنسانية والبيئية يتكشّف. 15 شهرًا من الحرب في قطاع غزة، كانت كفيلةً بصناعة أكثر من 40 مليون طن من ركام المباني المهدّمة، بينها نحو 7500 طن من الذخائر غير المتفجرة، وفق تقرير للأمم المتحدة نشرته في إبريل 2024م.
ووفقاً للتقديرات التي نشرها برنامج الأمم المتحدة للبيئة في يونيو/ حزيران الماضي، فقد تضرر 137.297 مبنى في غزة، وتم تدمير ما يزيد قليلًا على ربعها، في حين تعرض حوالي عُشر المباني لأضرار جسيمة، وتعرّض ثلثها لأضرار متوسطة.
مخلفات خطرة!
ولا يكمن التحدي البيئي الذي يواجه القطاع بعد إعلان وقف إطلاق النار، في كمية الركام وحسب، بل في تلوّث هذا الركام بمخلّفات خطرة، كـ"قنابل الدايم، واليورانيوم، والفسفور"، في الوقت الذي تخلو فيه غزة أساسًا من مكبّات خاصة بهذا النوع من المخلفات.
في خانيونس، جنوبي قطاع غزة، "كان الطفل محمد أبو سمّور (14 عامًا) يحاول التوازن فوق الحجارة المتبقية من بيت عائلته، باحثًا عن كرةٍ ملونة كان يحب أن يلعب بها مع أصدقائه، وأحضرها له والده هدية"، هكذا وصف شهود عيان الصورة.
يخبرنا أحدهم ويدعى عبد الله شبير، أن الفتى أمسك بعلبة طعام، يبدو أن جنودًا تركوها بعدها انسحابهم من المدينة، وهرول بها ناحية عائلته التي نصبت خيامًا قريبة، ولما همّ بفتحها انفجرت في وجهه وأصابته بحروقٍ شديدة، "لقد كانت عبارة عن جسم غير منفجر، تركه الجنود عمدًا" يقول.
شبير الذي يعيش بالقرب من عائلة أبو سمور، يشير إلى بيته الذي لم يختلف حاله كثيرًا عن حال بيت جيرانه، ويضيف: "أخشى من رفع أي حجر، أو حتى البحث عن أغراض سليمة لنا تحت الحجارة، خشية أن تكون هناك أجسام أخرى أو قنابل وصواريخ لم تنفجر".
يتفاءل الشاب بعملية إعادة إعمارٍ قريبة، و"حتى ذلك الحين. علينا أن نكون حذرين في التعامل مع هذا الركام على أنه قنابل موقوتة" يعقب.
ويتحدث السيناريو الأكثر تفاؤلًا بخصوص إعادة الإعمار بغزة، عن إمكانية استمراره حتى عام 2040، حسب ما أعلن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في مايو/ أيار الماضي، مؤكدًا أن "إعادة إعمار المنازل التي دمرت خلال الحرب، تحتاج لما تكلفته 40 مليون دولار على أقل تقدير".
الاحتباس الحراري
وتقدر "الأمم المتحدة" أيضًا أن إخلاء ركام غزة سيستغرق 15 عامًا، فيما تبلغ تكلفة العملية ما بين 500 مليون دولار، و600 مليون دولار، مشيرةً إلى أنه سيكون من الضروري بناء مكبات ضخمة لدفن الأنقاض تمتد على مساحة 250 و5000 دونم.
وكان الخبير البيئي الفلسطيني سعيد العكلوك، نبّه في تصريحاته للعديد من وسائل الإعلام، أن "كل 100 متر مربع من الأبنية المدمرة ينتج عنه 1000 طن من الركام، وتطلق عملية إزالتها 110 طن من ثاني أكسيد الكربون المكافئ".
وأضاف: "بتعميم هذه الأرقام على مجمل الوحدات السكنية التي دمرها الاحتلال في قطاع غزة، ويتجاوز عددها 200 ألف وحدة سكنية، فإن ذلك سيُنتج 630 مليون طن من ثاني أكسيد الكربون المكافئ المتسبب في الانحباس الحراري، مما يعني أن الانعكاس الخطير لتلك المخلفات لن يقتصر على فلسطين وحدها، بل سيطال كل المنطقة على مدار سنوات قادمة".
ويرى العكلوك أن جزيئات الأسمنت المتطايرة مع المواد المتفجرة في الهواء، تترك أثرًا مباشرًا وتراكميًا على الجهاز التنفسي وجسم الإنسان، متوقعًا أن تشهد الفترة المقبلة ظهورًا مطردًا لأمراض السرطان، وتشوهات في الأجنة داخل قطاع غزة.
أزمات تنفس حادة
ويؤكد الدكتور أحمد الفرا رئيس أقسام الأطفال، بمجمع ناصر الطبي بخان يونس، جنوبي قطاع غزة، أن هناك الكثير من الأمراض التي رصدها الأطباء وتعاملوا معها وترتبط بشكل مباشر بالحرب وتداعياتها البيئية، "وعلى رأسها الالتهابات الرئوية، التي تصيب الأطفال على نحو كبير وملحوظ، نتيجة الركام المتناثر واستنشاق الهواء المحمل بذرات الغبار الناجم عن القصف".
وبحسب الفرا، فإن الملاحظ في حالات إصابة الأطفال بالالتهابات الرئوية، عدم استجابتها للعلاجات والمضادات الحيوية. يقول: "الكثير من هذه الحالات تحتاج للجراحة واستئصال الجزء التالف من الرئة وتقشيرها، وإزالة الأنسجة الليفية التالفة الناجمة عن هذه الالتهابات، وهذا ما يعد صعبًا في ظل انهيار المنظومة الصحية بشكل كامل داخل القطاع".
وبالقرب من بيتها المهدوم، في منطقة السطر الغربي، بمدينة خانيونس، جنوبي القطاع، وداخل خيمتها المهترئة، تجلس مريم ضهير (57 عامًا).
"في أية لحظة يمكن أن ننقلها إلى المشفى، فأمي مريضة ربو، وبسبب وجودنا في منطقة رملية، ونتيجة لذرات الغبار وركام المنازل المتطايرة، تفاقم وضعها كثيرًا" تقول ابنتها مروة (25 عامًا).
تهاجم السيدة أزمة التنفس فجأة، وأحيانًا أكثر من مرة خلال اليوم، "وهذا يجعلني في حالة تأهب مستمرة" تضيف الابنة.
تخبرنا السيدة أن شعورًا بالاختناق يرافقها على الدوام، وأنها طالما لم تعُد إلى بيتها وغرفتها النظيفة، "فإنها لن تعيش طويلًا" على حد تعبيرها.
وتردف بقهر: "ماذا الآن؟ بعد أن توقف إطلاق النار، واتفق القادة؟ ماذا علينا أن نفعل هنا في هذه الخيام؟ من يعيد لي بيتي، وفراشي النظيف؟ ومن يعوضنا عن جودة الحياة التي فقدناها تمامًا طوال 15 شهرًا كاملة؟".
ودمرت "إسرائيل" أكثر من 85% من مصادر المياه ومرافق الصرف الصحي، وأخرجتها عن الخدمة بعدما طالت بالقصف والتجريف نحو 330 ألف متر طولي من شبكات المياه، و655 ألف متر من شبكات الصرف الصحي، و717 بئر مياه كانت تسهل وصول الخدمات إلى أكثر 2.4 مليون فلسطيني، حسب آخر إحصائية رسمية.
ذلك الحجم المهول من الدمار يفوق ما جَرى في حرب روسيا وأوكرانيا، التي بدأت قبل عام ونصف تقريبًا من تاريخ الحرب على غزة، هذا ما يشير له مونغو بيرش (المسؤول عن دائرة الأمم المتحدة للإجراءات المتعلقة بالألغام في غزة)، خلال مؤتمر صحفي بجنيف، إذ قال: "لفهم مدى ضخامة الأمر، جبهة القتال في أوكرانيا تبلغ 600 ميل (نحو 1000 كيلومتر)، في حين أن غزة لا يزيد طولها على 25 ميلًا وهي كلها جبهة قتال".