غزة/ البوابة 24- رشا أبو جلال:
في إحدى زوايا خيمة عائلة اللداوي، في منطقة مواصي خان يونس، جنوبي قطاع غزة، يجلس الطفل أحمد (٩ سنوات)، الذي ولد أبكمًا، وحيدًا، يتجنب النظر إلى خارج حدود الخيمة.
برغم إعلان وقف إطلاق النار في غزة، يخشى أحمد الخروج من خيمة عائلته الصغيرة، التي فقدت منزلها شمالي القطاع، وآثرت البقاء جنوبًا إلى حين تحسن أحوال الحياة هناك. "إنه يشعر بالأمان هنا، بعيدًا عن نظرات الفضول، وكلمات التنمر والضحكات التي يعي جيدًا أنها تسخر منه" تقول أمه لـ"البوابة 24".
داخل مخيم الإيواء، الذي لم يغادره معظم النازحين فيه، ممن هدمت بيوتهم في شمالي القطاع، تتنوع الخلفيات الثقافية والاجتماعية. هناك من يتفهم إعاقته ويتعامل معه بلطف، وهناك من يسخر منه لعدم قدرته على النطق أو التواصل بسهولة.
أحمد أصبح يتجنب أي محاولاتٍ للاندماج، حتى عندما تأتي أمه، أم أحمد، لتحثه على اللعب مع الأطفال الآخرين.
تحكي الأم بحرقة: "أخاف على أحمد كثيرًا. كلما حاولت إقناعه بالخروج، ينظر إليّ بعينين مملوءتين بالخوف. يقول لي بحركات يديه إنه يخاف أن يسخروا منه، أو أن لا يفهموا ما يريد قوله".
في إحدى المرات وجدت والدته بعض الفتية وقد تجمعوا حوله، وكانوا يصفقون ويسخرون منه لعدم قدرته على الكلام. تضيف: "انتزعت أحمد من بينهم. كان حينها يبكي لعدم قدرته على التعبير، ولإحساسه بأنه طفل مختلف عن أقرانه".
لم تستسلم أم أحمد لهذا الواقع. قررت أن تبحث عن طرق لتساعد ابنها في مواجهة مخاوفه. بدأت بتعليمه بعض الكلمات بلغة الإشارة البسيطة، التي يمكن للأطفال الآخرين فهمها. وطلبت من أحد الشباب المتعلمين في المخيم، أن يساعدها في تنظيم جلسة تعريفية للأطفال عن كيفية التواصل مع أحمد.
تزيد: "يشعر طفلي بوصمة تلاحقه بسبب الوسط المحيط به، الذي ينظر له نظرة شفقة أحيانًا، ونظرة سخرية في أحيان أخرى. أحاول قدر المستطاع تعزيز ثقته بنفسه، لكن يا للأسف، المحيط لا يساعدني".
"عبء بلا أجنحة"
وفي دير البلح، وسط قطاع غزة، وداخل خيمةٍ أيضًا تعيش هدى (فضلت حجب اسم عائلتها)، وهي فتاة تبلغ من العمر (26 عامًا). تجلس طوال الوقت على كرسيها المتحرك، بعدما فقدت ساقيها في أكتوبر/ تشرين أول 2023م. لم تكن تتخيل يومًا أن تتحول حياتها إلى هذا الكابوس، ليس فقط بسبب إعاقتها، ولكن بسبب "الوصمة" المجتمعية للأشخاص ذوي الإعاقة، التي تدفعهم تلقائيًا لاعتزال الناس، وتفضيل الوحدة.
تقول هدى لـ"بوابة 24": "شعرتُ لأول مرة بثقل هذه الوصمة حين سمعت والدتي تتحدث مع إحدى جاراتها قائلة: "هدى الله يعينها، هم كبير كثير. كيف سأهتم بها؟ ومن سيتزوج فتاة بلا ساقين؟ ستبقى جالسة في البيت طوال حياتها".
تلك الكلمات كانت كطعنةٍ في قلب هدى، لكنها لم تتوقف عند هذا الحد. في ليلةٍ مظلمة، سمِعَت هدى والدتها تهمس بعد أن حملتها إلى مكان المرحاض، وأعادتها للفراش: "الله يريحني من هذا الهم".
هذه الكلمات لا تزال تتردد في ذهن هدى، تتسبب لها في أرقٍ دائم. تقول: "أشعر وكأنني سقطت في حفرة بلا قاع. حتى عائلتي، التي يفترض أن تكون سندي، تنظر لي وكأنني عبء. لم أعد أرى نفسي إنسانة، وأصبحتُ أعيش في خوف دائم من نظرات الناس ومن مواجهة الحياة خارج جدران المخيم".
هدى، التي كانت قبل الحرب شابة يحركها الطموح، تحلم بإكمال دراستها الجامعية والعمل في مجال التصميم الداخلي، تجد نفسها الآن سجينة جسدها ونظرة المجتمع لها. تضيف: "لم أعد أستطيع النظر في المرآة. أرى فقط فتاة عاجزة، محطمة، بدون أي قيمة".
الوصمة التي تعاني منها هدى لا تقتصر على عائلتها فقط، بل تمتد إلى محيطها في المخيم. الأطفال يتهامسون عنها، والجيران يتجنبون الحديث معها كما لو كانت إصابتها لعنة، وبعضهم يبرر "حتى لا تزعل على حالها". تقول هدى "إن هذا العزل الاجتماعي عمّق من شعوري بالوحدة والعجز".
لكن رغم كل الألم، تحاول هدى أن تجد بصيصًا من الأمل. لقد بدأت بتعلم الرسم للتعبير عن مشاعرها ومحاولة كسر قيود الوصمة. "أريد أن أقول للعالم إنني ما زلت هنا، وأنني أملك شيئًا أقدمه. حتى لو رفضني الجميع، فلن أرفض نفسي".
وكشف الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني أن عدد الأشخاص ذوي الإعاقة في فلسطين بلغ نحو 115,000 فرد، خلال عام 2023م، بنسبة 2.1% من إجمالي السكان. وتُعد الإعاقة الحركية الأكثر شيوعًا بينهم، حيث تشكل 47% من الحالات.
وأظهرت الإحصاءات أن قطاع غزة يعاني من نسبة أعلى، حيث تبلغ نسبة الأشخاص ذوي الإعاقة 2.6% مقارنة بـ1.8% في الضفة الغربية. وسُجلت أعلى نسب انتشار في شمال غزة (5%) ودير البلح (4.1%)، فيما كانت أدناها في رام الله والبيرة وأريحا والأغوار (2%).
وفيما يتعلق بالأطفال، تشير التقديرات إلى أن 12% من الأطفال في فلسطين يعانون من صعوبات وظيفية، مع انتشار ملحوظ لصعوبات التعلم. يُقدر عدد الأطفال ذوي الإعاقة في قطاع غزة بنحو 98,000 طفل.
ومن المتوقع أن يتفاقم الوضع نتيجة العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة، حيث قد يرتفع عدد ذوي الإعاقة إلى نحو 12,000 فرد إضافي، بسبب الإصابات المباشرة ونقص الخدمات الطبية الأساسية.
"الوجوه تحكي قصتها"
في مخيم "عائدون" لإيواء النازحين في مواصي خان يونس جنوب قطاع غزة، تعيش ريهام، وهي فتاة في العشرين من عمرها، تحمل بين عينيها قصة صامتة، عن الألم ومعنى الوصمة.
منذ كانت طفلة في الرابعة، سقطت عليها مياه ساخنة بسبب حادثٍ منزلي، فتسببت بحروق شديدة شوهت ملامحها. وعلى الرغم من محاولات عائلتها المستمرة لإجراء عمليات تجميل، بقي وجهها شاهدًا على تجربة غيرت حياتها إلى الأبد.
في المخيم، تختبئ ريهام داخل خيمتها، تراقب العالم من وراء الستار. كانت تتجنب الخروج إلا للضرورة القصوى، ولا تجيب زوار الخيمة إلا بنظرات سريعة، متجنبة التحديق في عيونهم.
تقول لـ"بوابة 24": "أخشى نظراتهم.. أشعر وكأن وجهي يروي لهم قصصًا لا أريد أن يسمعوها".
تعرضت ريهام للعديد من المواقف المؤلمة. كانت تسمع أحيانًا همسات بين المارة، ولم تخلُ من عبارات قاسية تسخر من شكلها. "كيف تعيشين مع هذا الوجه؟" سألها أحد الأطفال ذات مرة، مما دفعها إلى الانزواء أكثر.
تشعر ريهام بأن مجتمعها في المخيم يعزز وصمتها. وتقول: "أريد أن أكون طبيعية، أن يراني الناس كما أنا، لا كما يرون آثار الحروق على وجهي."
على الرغم من كل ذلك، تحاول والدتها، أم ريهام، أن تمنحها القوة. تقول الأم: "ريهام ليست مجرد وجه.. هي فتاة ذكية ولديها طموحات، لكن المجتمع يجعلها تشعر وكأنها أقل منهم مكانة".
ريهام تأمل أن تجد مستقبلًا خارج هذه القيود، لكنها تعترف بأن الخروج من الخيمة يتطلب شجاعة أكبر من أي عملية تجميل.
وعي مجتمعي
ويقول الخبير النفسي والاجتماعي إياد الشوربجي لـ"البوابة 24": "إن أبرز الأسباب النفسية والاجتماعية التي تجعل ذوي الإعاقة أو الذين يعانون من تشوهات ظاهرة يشعرون بالوصمة، هي التنمر اللفظي أو النظرات المستمرة التي تحمل الشفقة أو السخرية وعدم التقبل".
وأضاف الشوربجي: "عندما يشعر الشخص بأنه محور اهتمام سلبي أو أنه مختلف بطريقة غير مقبولة اجتماعيًا، يتولد لديه خوف من الرفض، ما يدفعه للانعزال وتجنب الاختلاط بالآخرين".
وأشار إلى أن تأثير هذه الوصمة يتجاوز البعد النفسي ليؤثر على جودة الحياة اليومية "إذ أن الانعزال لا يقتصر على الابتعاد عن الناس، بل قد يمنعهم من السعي وراء التعليم أو العمل، أو حتى تلقي الدعم العاطفي والاجتماعي الذي يحتاجونه".
وأكد الشوربجي على أهمية دور المجتمع في دعم هذه الفئات، قائلًا: "يجب أن ندرك أن ذوي الإعاقة أو التشوهات الظاهرة ليسوا أقل من غيرهم، بل هم أفراد لديهم طاقات وقدرات تستحق الاحترام والتقدير. الدعم النفسي والاجتماعي من الأسرة والمجتمع المحيط يمكن أن يكون فارقًا كبيرًا في تجاوز مشاعر الوصمة".
وفيما يتعلق بدور الأسرة، شدد الشوربجي على ضرورة تعليم الأطفال احترام هذه الفئات منذ الصغر، مضيفًا: "يجب أن نزرع في أطفالنا قيم التقبل والاحترام، وأن نعلمهم أن الاختلاف ليس عيبًا. الأطفال يتعلمون مما يرونه في سلوك البالغين، لذلك يجب أن نكون قدوة في التعامل مع ذوي الإعاقة بكل احترام وتقدير".