نقلت مجلة "نيويوركر" الأمريكية، شهادة سردية مطولة للطبيب الأمريكي كلايتون دالتون، عكست تجربة شخصية مؤثرة عن الأطباء الذين يخاطرون بحياتهم يومياً لإنقاذ آلاف الأرواح في قطاع غزة، في ظل انهيار شبه تام في منظومة الرعاية الصحية.
شهادة طبيب أمريكي عن الوضع في غزة
وفي هذا الإطار، كشف "دالتون"، تفاصيل عبوره إلى غزة ضمن بعثة طبية مؤلفة من 12 شخصاً، وذلك بعد أسبوعين من إعلان اتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحركة حماس.
وتحدث "دالتون"، كيف عبر جنوب إسرائيل في قافلة تابعة للأمم المتحدة، ترافقها قافلة عسكرية إسرائيلية، وسط متاهة من الحواجز الإسمنتية، وهناك، ترجلوا حاملين حقائبهم الممتلئة بالمستلزمات الطبية الأساسية كالشاش والمضادات الحيوية، ثم دخلوا إلى غزة عبر بوابة معدنية مقاومة للانفجارات.
بدأ "دالتون"، رحلته إلى خان يونس على متن سيارة محطمة الزجاج الأمامي، حيث شاهد دماراً واسعاً، مباني مدمرة بالكامل، ومئذنة تعلو مسجداً مهدماً، وعائلة تشرب الشاي داخل مبنى بلا سقف، فيما كان الأطفال يلهون ويطيرون الطائرات الورقية رغم هول المشهد.
وداخل مستشفى ناصر، قضى ليلته الأولى، لفت "دالتون"، إلى أن هذا المستشفى كان قد تعرض لهجوم عنيف في فبراير 2024، أسفر عن استشهاد 12 شخصاً، وانقطاع التيار الكهربائي والأكسجين، علاوة على اقتحام من قبل الجيش الإسرائيلي، الذي ادعى العثور على أسلحة وأدوية مخصصة للرهائن الإسرائيليين.
كما أوضح "دالتون"، أن إسرائيل لم تقدم أدلة كافية لدعم هذه المزاعم أمام وسائل الإعلام أو المنظمات الدولية.
"مثل هيروشيما بعد القنبلة الذرية"
وكتب "الطبيب الأمريكي"، أن شمال غزة شهد أسوأ درجات الدمار، حيث بدا المشهد في بعض الصور وكأنه نسخة من هيروشيما عقب القنبلة الذرية، معظم المستشفيات الـ22 تعرضت لهجمات مباشرة، وكان مستشفى الشفاء، الذي يعد أكبرها، قد دمر بالكامل تقريباً.
وفي السياق ذاته، وصف "الطبيب الأمريكي"، بالتفصيل مختلف أقسام مستشفى ناصر، مشيراً إلى وحدة العناية المركزة في الطابق العلوي، وجناح الأطفال الذي زينت جدرانه برسومات كرتونية، حيث كانت الطفلة مريم، البالغة من العمر 9 سنوات، تخضع للعلاج بعد أن بترت ذراعها نتيجة غارة جوية وأصيبت إصابات بالغة أخرى استلزمت خمس عمليات جراحية، ونقل الطبيب عن زميله قوله: "لا أشعر أن هذا حقيقي، كيف يمكن لشيء بهذه الفظاعة أن يكون واقعياً؟".
ونوه "الطبيب الأمريكي"، أن انسحاب القوات الإسرائيلية وتوقف القصف تسبب في تراجع الحاجة لطوارئ مستعجلة، فاقترح عليه مدير مستشفى الأقصى توثيق الوضع الصحي العام في غزة بدلاً من البقاء في مستشفى واحد.
وأثناء هذه المهمة، تعرف "الطبيب الأمريكي"، على معاناة المسعفين الذين كانوا يروون له أصعب لحظات حياتهم، مثل اكتشاف أن الغارة الجوية أصابت عائلاتهم أو انتشال جثث الأطفال من تحت الأنقاض، في مشهد تلخصه العبارة المؤلمة: "من الغريب أن يسمح العالم بحدوث هذا".
مقبرة جماعية أمام المستشفى
ولفت "الطبيب"، إلى أن طالب قسم جراحة العظام شرح له حجم الكارثة، مع تعرض نحو 26 ألف شخص لعمليات تثبيت خارجية للعظام، مما يعني أن كثيرين سيظلون في انتظار جراحات إضافية لسنوات طويلة، مع مستقبل بائس يلوح في الأفق.
وفي اليوم الخامس، انتقل "الطبيب"، إلى زيارة مستشفيات شمال غزة. وقد وصلوا إلى مستشفى كمال عدوان، الذي تحول إلى أنقاض بعد غارة إسرائيلية، مشياً على الأقدام مع منسق البعثة أحمد العسولي عبر طريق الرشيد الساحلي، ومع انتشار الزجاج المهشم والروائح الكريهة في أروقته.
وكانت الحضانات الموجودة في الطابق العلوي من المستشفى مدمرة تماماً، وغرف العمليات الثلاث متفحمة، فيما أصبح جناح غسيل الكلى مجرد ذكرى، وأمام المستشفى، قال لهم الطبيب حمد إن هناك مقبرة جماعية، وإنهم لا يعرفون عدد المدفونين فيها.
في مستشفى الشفاء، الذي اتخذ بعض العاملين فيه من أنقاضه مأوى لهم، وصف دالتون المشهد المروع للدمار الكامل، لافتًا إلى أن الأطباء اضطروا لإجراء عمليات معقدة دون أدوية تخدير أو مسكنات وسط صرخات المرضى، في انتهاك صارخ لاتفاقيات جنيف التي تحظر استهداف المستشفيات.
تدمير متعمد للأجهزة
في جولة داخل مستشفى الشفاء، لاحظ دالتون تدمير الأجهزة الطبية بشكل منهجي، من مضخات المحاليل إلى أجهزة غسيل الكلى، بطريقة تدل على تعمد الإضرار وليس نتيجة قصف عشوائي، وقد نفى متحدث عسكري إسرائيلي هذه الاتهامات، ووصفها بأنها "ادعاءات زائفة قطعاً".
بناءً على دراسة أجرتها جامعة هارفارد، أوضح "الباحثون" أن 84% من مستشفيات غزة كانت ضمن نطاق الضرر المحتمل لقنابل ثقيلة الوزن، وهو ما يعزز اتهامات استهداف المنشآت الطبية دون مراعاة القوانين الدولية.
وخلال زيارة إلى بيت لاهيا، لاحظ دالتون أن المدينة قد سويت بالأرض باستثناء المستشفى الإندونيسي، الذي تعرض بدوره للقصف، وهناك، أجرى الأطباء جراحات معقدة في ظروف بدائية على كراسي أطباء الأسنان أو على الأرض مباشرة، بينما دُمرت مولدات الكهرباء ومحطة الأكسجين بالكامل.
دخل دالتون لاحقاً غرفة تخزين مكتظة بالمعدات الطبية التي تعرضت للتخريب، وقال إنه لم يستطع أن يجد أي مبرر عسكري لهذا التدمير الممنهج.
عودة الحرب واستحالة المعاناة بمنع المساعدات
والجدير بالإشارة أن "دالتون"، قد غادر غزة متوجهًا إلى الولايات المتحدة في فبراير، ولكن سرعان ما منعت إسرائيل دخول المساعدات الإنسانية، بما فيها الإمدادات الطبية، إلى القطاع، مما عمق الكارثة.
ويشار إلى أن الغارات الجوية الإسرائيلية قد استأنفت في مارس الماضي، مما أسفر عن مقتل أكثر من 400 شخص في ليلة واحدة فقط، وذكر الطبيب عز من مستشفى الأهلي أن الطواقم الطبية تواجه "خيارات مستحيلة" مع قلة الموارد وكثرة المرضى.
وتحدث جراح الصدمات الأمريكي فيروز سيدوا، كيف هرع إلى قسم الطوارئ بعد قصف عنيف لخان يونس، حيث استقبلوا 221 مصاباً توفي منهم 92 خلال ساعات قليلة.
والجدير بالذكر أن "سيدوا"، تحدث عن الصبي إبراهيم، البالغ 16 عاماً، الذي أصيب بجروح خطيرة، وكان يتعافى تدريجياً، قبل أن يقتل لاحقاً في قصف إسرائيلي طال المستشفى، بزعم استهداف قائد بحماس كان يتلقى العلاج في نفس الجناح، وهو ما نفاه سيدوا بشكل قاطع، مشددًا على أن الصبي كان بريئاً من أي صلة بالنشاطات العسكرية.