لم تكن وجهة الفلسطينيين نحو مراكز المساعدات التي أقامتها إسرائيل في جنوب قطاع غزة خيارًا أو نزهة، بل كانت فرضًا قاسيًا دفعهم إليه الجوع الذي يقتل يوميًا، وغياب أي مصدر آخر للغذاء.
خرج الرجال والنساء والأطفال من خيامهم وسط ركام منازلهم، بحثًا عن كيس دقيق أو علبة طعام قد تنقذ حياتهم، استجابةً لإعلان عن توزيع "مساعدات" في مناطق أُعلن عنها آمنة تحت رقابة الجيش الإسرائيلي.
مجازر في نقاط التوزيع
إلا أن المفاجأة كانت مروعة، إذ سرعان ما اندفع العشرات مذعورين من الموقع، إثر إطلاق نار أدى إلى سقوط شهداء وجرحى، تم نقلهم بعربات يجرها حيوانات، بسبب منع سيارات الإسعاف من الوصول إلى المناطق المستهدفة، ووثقت شهادات مؤلمة من المصابين وذويهم مأساة الفلسطينيين المجوعين الذين وجدوا أنفسهم محاصرين بين نار المعارك وجوع لا يرحم.
خطة مشبوهة لتوزيع المساعدات
وبعيدًا عن إشراف الأمم المتحدة والمنظمات الدولية، شرعت إسرائيل منذ 27 مايو الماضي في تنفيذ خطة مشبوهة لتوزيع ما تسمى "مساعدات إنسانية" عبر "مؤسسة غزة الإنسانية"، وهي جهة مدعومة من إسرائيل والولايات المتحدة، وترفضها الأمم المتحدة.
ومن جهته، حدد الجيش الإسرائيلي أربع نقاط لتوزيع المساعدات، منها ثلاث في الجنوب وواحدة في منطقة "نتساريم" التي تفصل شمال القطاع عن جنوبه.
تسمح إسرائيل لهذه المؤسسة فقط بتوزيع كميات ضئيلة من المساعدات في مناطق عازلة جنوب القطاع، بهدف تفريغ الشمال من الفلسطينيين، بينما تواصل القوات الإسرائيلية إطلاق النار على التجمعات التي تنتظر المساعدات، مما خلف مئات الشهداء والجرحى، خاصة في مدينة رفح.
قصص من الجوع والخوف
تحدث الفلسطينيون الذين توجهوا لتلك النقاط، عن كيف أطلقت القوات الإسرائيلية النار عشوائيًا أثناء انتظارهم الحصول على طرود غذائية، يزن مصلح، شقيق الطفل يزيد (13 عامًا)، قال: "ركضنا نحو مركز التوزيع بعد إعلان المساعدات، وأبي وضعنا في منطقة قالوا إنها آمنة، لكنها لم تكن كذلك، بدأ إطلاق النار عشوائيًا، وأصيبت يد أخي، وفجعت عندما خرجت أحشاؤه بسبب الرصاصة."
كما تستمر إسرائيل، منذ مارس الماضي، في سياسة تجويع ممنهجة تجاه أكثر من 2.4 مليون فلسطيني، عبر إغلاق المعابر ومنع دخول المساعدات الإنسانية المتكدسة، ما أدى إلى دخول القطاع في حالة مجاعة حادة، راح ضحيتها الكثيرون.
تعليمات كاذبة
ومن جانبه، تحدث المصاب خالد اللحام، عن تجربته قائلاً: "ذهبنا باتباع تعليمات الجيش الذي وصف المنطقة بأنها آمنة، لكننا فوجئنا بوابل من الرصاص، أصبت وسقط عدد من الشهداء، كنا نبحث عن الطعام فقط".
تتوقف عمليات التوزيع مرات عديدة بسبب تدفق أعداد هائلة من الجائعين وإطلاق النار عليهم، ما يجعل من آلية التوزيع هذه أداة فاشلة ومأساوية.
كما أكد محمد البسيوني، شاب جريح خرج من بين الأنقاض مبكرًا، أن هدفه الوحيد كان جلب الطعام لوالده المريض، قائلًا: "أمي كانت ترفض أن أذهب لكني أصريت، وعندما وصلت بدأ إطلاق النار، أصبت في ظهري وخضعت لعملية جراحية، لكن غيري عاد جثة".
استنكار عالمي
وبدورها، دعت وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا" إلى تمكين وصول المساعدات بأمان، معتبرة أن الآلية الحالية لا تلبي الاحتياجات العاجلة، كما نددت منظمة "أطباء بلا حدود" بقتل عشرات الفلسطينيين أثناء انتظارهم للمساعدات، مشددة على أن النظام الجديد لتوزيع المساعدات يفتقر للإنسانية والفعالية.
كما أكد المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، أن الجيش الإسرائيلي يرتكب "جريمة مزدوجة" باستخدام المساعدات كسلاح للإذلال والإخضاع والتدمير والقتل، مشيرًا إلى أن نقاط توزيع المساعدات تحولت إلى "ساحة جديدة لقتل وسحق المدنيين المجوعين".
اعتراف إسرائيل
من جهته، اعترف جيش الاحتلال الإسرائيلي، أن قواته أطلقت النار باتجاه مجموعة من الأشخاص قرب مركز توزيع المساعدات في رفح، زاعمًا بأن هؤلاء الأشخاص "انحرفوا عن المسارات المحددة لهم".
وجاء هذا الإقرار في وقت تتصاعد فيه الضغوط الحقوقية والدولية على إسرائيل لوقف استهداف المدنيين.
ويذكر أن إسرائيل تواصل حربها الغاشمة على قطاع غزة منذ 7 أكتوبر 2023، وذلك بدعم أمريكي كامل، مما أسفر عن استشهاد وإصابة أكثر من 179 ألف فلسطيني، معظمهم من النساء والأطفال، علاوة على أكثر من 11 ألف مفقود، ومئات الآلاف من النازحين في ظل كارثة إنسانية غير مسبوقة.