ما وراء المعرفة..تحديات التفسير بين النظرية والتطبيق
بقلم فايز أبو رزق
هل معرفة لغة الآخر ومتابعة أخباره، تعد كافية ووافية لتضمن لنفسك قبل المحيطين بك، أنك تمتلك فهما دقيقا وشاملا للآخر بحيث يمكنك التنبؤ بتصرفاته المستقبلية؟
قبل عدة سنوات، شاركني الكاتب الفلسطيني توفيق أبو شومر تجربته في الحصول على تصريح عمل في "إسرائيل"، بهدف التعرف عن كثب على المجتمع الإسرائيلي، وخاصة الحريدي. كان يسعى كباحث يتبع خطوات منهجية علمية صحيحة، لفهم تركيبة عالم الحريديم المغلق قبل أن يكتب عن وضع المرأة فيه. وقد أدرك أبو شومر أن المعرفة السطحية، مثل متابعة نشرات الأخبار أو قراءة الصحف، لا تكفي لاستيعاب تعقيدات عالمهم الخاص. بعد هذه التجربة الفريدة، أصدر كتابا قيما بعنوان "قصص نساء يهوديات معنفات" يتناول فيه قضايا المرأة اليهودية.
وبناء على ما سبق، فليس كل من يتقن اللغة العبرية أو الانجليزية ويتابع حياة الإسرائيليين، ويراقب تحولاتهم السياسية، يمتلك وعيا عميقا للتيارات السياسية المختلفة، مثل معسكرات الحريديم وتنوعاتهم ومرجعياتهم الدينية. ولذلك تظل معرفتنا بالإعلام العبري محدودة رغم إجادة اللغة. فالكثيرون يفتقرون إلى التفسير والتحليل للتوجهات الحقيقية للقنوات الإسرائيلية، ولا يدرك الأغلبية أن هناك انتماءات سياسية وأيديولوجية تؤثر على كتابات المراسلين الإسرائيليين.
وفي مجال المعرفة العامة ربما لم تستمع إلى
أغانيهم أو تشاهد أفلامهم لاستكشاف القضايا والمعتقدات التي يعبرون عنها عبر الموسيقى.
وربما لم تجد الوقت لقراءة كتاب لعاموس عوز أو تتعرف على كتابات الشاعر يهودا عميحاي. ولم يتسن لك التجول في شوارع تل أبيب لمشاهدة التناقضات الثقافية حيث ترى امرأة ترتدي ملابس قصيرة تسير على بعد خطوات من رجل متشدد من الحريديم.
تتجلى هذه المعرفة العامة في مقابلة تلفزيونية للناطق باسم الجيش الإسرائيلي "أفيخاي أدرعي"، قال فيها:"أنا أفكر باللغة العربية وأتحدثها، وأعيش كما يعيش العربي، وأحيانا أحلم بالعربية. إذا لم نقاتل على شبكات التواصل، فسوف نخسر
الحرب".
إن قدوم اليهود من دول مختلفة لاستعمار فلسطين جعل منهم مزيجا من ثقافات متعددة وتجارب متباينة. وهذا التنوع حتى وقتنا الحالي يمتلك ديناميكية التغيير، فمن يصوت اليوم لحزب يساري يمكن أن يتحول في الانتخابات القادمة إلى متدين يعيش في مستعمرة بالضفة الغربية ويربي أطفاله مع فتية التلال. مثلما حدث مع "يهودا كوهين"، الذي كان ناشطا في منظمات تدعو للسلام والتعايش وتحول فيما بعد ليدعم الاستعمار ويشارك في إقامة مستعمرات، واستقر به المقام للسكن في مستعمرة بيت إيل بالضفة الغربية المحتلة.
بسبب التنوع العجيب في المجتمع الإسرائيلي، والذي يضيف طبقات من التعقيد في تحليل أنماط التفكير وردود الأفعال، نلاحظ أن بعض الأكاديميين والمحللين الذين يعيشون خارج الوطن لا يمكنهم إدراك تفاصيل المجتمع الإسرائيلي بنفس عمق الفلسطينيين من عام 1948 الذين يعايشون الواقع يوميا.
كل ما أوردته يؤكد أن هناك عوامل متشابكة تؤثر في قرارات الحرب والسلم، يجب أن تتخذ من قبل قادة يستعينون بمستشارين خبراء في مختلف المجالات. هؤلاء المستشارون يجمعون ويطرحون حسابات الربح والخسارة، مع مراعاة قدرة المواطن على الاحتمال.
وذلك يناقض ما تم اتخاذه من مخططات مصيرية، اعتمدت على الخبرات الفردية للأسرى الفلسطينيين الذين سجنوا سنوات طويلة في المعتقلات الإسرائيلية، فجاءت قاصرة عن تقديم رؤية شاملة، على الرغم من تجارب الأسرى الغنية وضرورة تكريمهم المستحق بشكل يليق بما قدموه.
لكن نظرا لتداخل المتغيرات المتعلقة بالواقع السياسي والاجتماعي لدينا، لا يمكن للأسرى اتخاذ قرارات استراتيجية بشكل فردي. وقد أظهرت تجربة السنوات الأخيرة في غزة أن بعض هؤلاء الأسرى "القادة" وتصوراتهم غير الدقيقة أدت إلى نتائج كارثية على الشعب الفلسطيني. فالمعرفة العميقة تتطلب الاطلاع على جميع المجالات السياسية والثقافية والاجتماعية، واستكشاف تفاصيل الحياة اليومية بدون كلل أو ملل.
فقط بهذا الإدراك للمجتمع العبري يمكننا تكوين رؤية أعمق وأكثر واقعية تسهم في اتخاذ قرارات مستنيرة بشأن القضايا الكبرى.
ويبقى التساؤل المنطقي: هل نحن جاهزون لبذل الجهد اللازم لفهم الآخر بعمق، أم سنبقى محاصرين في تصوراتنا السطحية؟ وهل نمتلك الإرادة والموارد اللازمة لتطوير برامج وطنية ومناهج بحثية متخصصة تساهم في استكشاف الجوانب الغامضة للمجتمع الإسرائيلي بموضوعية، مما يعزز قدرتنا على اتخاذ قرارات أكثر حكمة واستراتيجية؟
