غزة/ البوابة 24- لميس الهمص
تتزاحم الويلات وأشكال المعاناة على سكان قطاع غزة منذ قرابة عامين. فعلاوةً على الفقد، وفقدان مقومات الحياة، والفقر، وارتفاع الأسعار، يُعد غياب السيولة من أكثر الصعوبات التي تُنغص على الغزيين يومهم، وتحرمهم من شراء أبسط احتياجاتهم اليومية، التي وصلت أسعارها إلى أكثر من 500 ضعف.
ومنذ أكتوبر 2023، يعاني سكان القطاع من شُح السيولة النقدية، نتيجة اندلاع الحرب، وإغلاق البنوك، إضافة إلى منع الاحتلال إدخال الأوراق النقدية إلى غزة، ومنع استبدال العملة التالفة. ويُعد هذا الانقطاع التام في التدفق النقدي من أبرز أشكال الحصار المالي المفروض على القطاع، حيث يعجز المواطنون عن تحويل أموالهم من أرصدة رقمية في البنوك إلى نقود سائلة تُمكنهم من تدبير شؤون حياتهم.
وقد تركت سلطة النقد المواطنين وحدهم في مواجهة سماسرة التكييش الذين تقاسموا معهم الأموال التي يحصلون عليها بشق الأنفس؛ إذ وصلت نسبة العمولة على سحب الأموال إلى 45%، ما أفقد السكان نصف قدرتهم الشرائية، وأدى إلى تراجعهم نحو صفوف الفقر. ويُظهر هذا الواقع غياب آليات الحماية الاقتصادية التي تُفترض من المؤسسات المالية الرسمية في حالات الطوارئ.
أموال بلا قيمة
في سوق الشيخ رضوان، يقف الحاج سامي (64 عاماً) أمام إحدى البسطات محاولاً شراء بعض الحاجيات لأسرته. يقول بأسى: "أعمل منذ ثلاثين عاماً، واليوم أعجز عن شراء الخبز. الراتب الذي أتقاضاه لا أستطيع صرفه، وعند سحبه، يأخذ تجار التكييش أكثر من ثلثه، وما يبقى لا يكفي لشراء شيء".
الحاج سامي ليس حالة استثنائية؛ آلاف المتقاعدين يعانون من تأخر الرواتب وصعوبة الحصول على أموالهم، في ظل شُح شديد في النقد، معتبراً أن الرواتب تُصرف نظرياً فقط، خاصة مع غياب وسائل الرقابة. ويشكو معظمهم من أن البنوك تمارس دوراً شكلياً بفتح أبوابها دون تمكين العملاء من السحب، ما يزيد من انعدام الثقة بالنظام المصرفي.
وأضاف: "يمتهن العشرات تجارة العملة، وترتفع النسب مع إغلاق المعابر، وفي أوقات صرف الرواتب. بعض المكيشين يخفضون النسب مقابل العملة المهترئة، ما يزيد من خسارة الموظفين الذين يخسرون جزءاً من قيمتها عند تمريرها للتجار".
بدوره، يشتكي المواطن سعيد أحمد من عدم القدرة على شراء احتياجاته المنزلية، بسبب فقدان السيولة وارتفاع الأسعار، مبيناً أنه يضطر لجلب الأولويات بكميات مقننة. ويؤكد أن ما تبقى من أموالهم يُستهلك في دفع الفوائد الجشعة، والتي فرضها واقع اقتصادي منحرف.
ويشير إلى أن القليل من المحال التجارية تعمل بنظام الدفع الإلكتروني، كما أن غالبيتها يرفع الأسعار نظير تلك الخدمة، ما يجعل المواطن هو الخاسر في كل الحالات. وفي ظل انعدام الحلول، يضطر البعض إلى التعامل مع السوق السوداء التي تهيمن على المشهد المالي.
ووفق أحمد، الموظف في القطاع الخاص، فإن الأرصدة في البنوك أصبحت بلا قيمة، كما أن التجار باتوا يرفضون جزءاً كبيراً من الأموال المتداولة في الأسواق، بحجة أنها قديمة ومهترئة، متسائلاً عن الحلول، وعن المسؤول عن إيقاف تلك الفوضى.
ويضيف: "أصبحنا عاجزين عن تلبية احتياجات أبنائنا. يجب الضغط لإدخال الأموال إلى القطاع؛ فهذه خطط ممنهجة ضمن سياسة التجويع. توقفت المساعدات، ارتفعت الأسعار، وفقدت الأموال قيمتها". ويرى أن هذا الوضع لا يمكن أن يُفهم إلا ضمن سياق هندسة مالية تهدف لإفقار السكان ودفعهم نحو خيارات اقتصادية قسرية.
سلطة صامتة
يقول الباحث الاقتصادي أحمد أبو قمر إن سلطة النقد فشلت خلال الحرب في القيام بمهامها، مثل تنظيم عمل البنوك والمؤسسات المالية، وحماية أموال المودعين، واستقرار النظام المصرفي. ويضيف أن الغياب الرقابي للسلطة خلال واحدة من أعقد الفترات الاقتصادية يُعد إخلالاً بواجباتها الدستورية والتنظيمية.
وأشار إلى أنها تركت القطاع المصرفي تحت رحمة عدد من التجار الذين يفرضون عمولات تصل إلى 45%، وهي تدرك من يدير سوق التكييش، إذ تظهر المعاملات في حساباتهم، لكنها لا تتحرك. وتساءل: كيف يمكن لمؤسسة تمتلك سلطة المراقبة على الحسابات البنكية أن تقف موقف المتفرج؟
وأكد أنها لم تصدر بياناً واحداً لطمأنة المواطنين بأن العملات المتداولة قانونية، كما لم تنجح في إدخال أي كميات نقدية لغزة خلال الهدنة، مكتفية بفتح البنوك دون إمكانية السحب أو الإيداع الفعلي. وتزداد المخاوف من استمرار هذا النهج الذي يعمق الشكوك الشعبية في فاعلية السلطة.
وأشار إلى أن السلطة تعاني من فائض الشيكل في الضفة، لكنها لم تتعامل بجدية مع أزمة السيولة في غزة، بل أمنت رواتب موظفيها فقط، دون اكتراث لعامة المواطنين. وهو ما اعتبره انتقالاً من سلطة وطنية إلى سلطة وظيفية تعمل لمصلحة منتسبيها فحسب.
وأكد أن تجاراً يجلبون بضائع بشروط دفع نقدي جديد يسحب ما تبقى من السيولة، وهو تناقض مع رفض البنوك للشيكل الفائض. وهذا الأمر يدل على وجود حلقة متكاملة من العبث المالي الذي يتم تمريره بصمت رسمي.
وشدد على ضرورة إدخال السيولة، واستبدال التالف من العملات، والضغط على الاحتلال للعمل وفق بروتوكول باريس الاقتصادي، وتطوير الدفع الإلكتروني، وتوعية المواطنين بفوائده. كما طالب بإجراءات رادعة ضد المتلاعبين.
وقال: "يدرك ذلك التاجر الذي سحب السيولة من غزة بعلم سلطة النقد أن مخططاً جديداً لسحب المزيد من السيولة يتم تمريره بعد فشل مخطط وزير الخارجية الإسرائيلي في إلغاء عملة الـ 200 شيكل. فبدلاً من إلغائها فعلياً، يجري سحبها من السوق عبر أذرع مالية محلية وبصمت رسمي".
إجراءات غير فعالة
منذ الانقسام، تعمل سلطة النقد بشكل منقوص في غزة، وهو ما أثّر على فعاليتها، إذ إنها تفتقر للوجود التنفيذي الكامل في القطاع. وفي ضوء أزمة السيولة، شجعت سلطة النقد المواطنين على فتح المحافظ الإلكترونية مثل "جوال باي" و"بال باي" لتبادل المدفوعات، وقامت بتعزيز نقاط البيع الإلكترونية (P.O.S) ونشرها في المحال التجارية كأداة للتغلب على أزمة السيولة.
ولتسهيل عملية تبادل الأموال بين الحسابات المصرفية في البنوك المختلفة والمحافظ الإلكترونية، أطلقت سلطة النقد في 8 مايو 2024 نظام الدفع الفوري "أي-براق" (iBURAQ)؛ بهدف تسريع عمليات التحويل والمدفوعات. وقالت في بيانها إن النظام يتيح تنفيذ الحوالات والمدفوعات بشكل فوري، بحيث يتم ترصيد المبلغ في حساب المستفيد وإشعار الدافع خلال مدة لا تتجاوز 10 ثوانٍ.
وسعت السلطة إلى تقديم النصائح للمواطنين بسرية بياناتهم المالية، وعدم تقديم بيانات حساباتهم لأي جهة غير رسمية، وعدم التعاطي مع عمليات الاحتيال والنصب والابتزاز. لكن هذه الإجراءات اعتُبرت غير كافية في ظل الحاجة الماسة للتوعية بأدوات التكنولوجيا المالية، والحقوق الرقمية، وآليات الشكوى.
ورغم هذه الخطوات، لم تنجح السلطة في الحد من ظاهرة سماسرة التكييش، وظلت الأسعار في ارتفاع، والسيولة نادرة، والعملات المهترئة مرفوضة، دون تدخل فعّال.
في مقابلة نشرت في دراسة لائتلاف أمان بعنوان "الرقابة والمساءلة على شركات الصرافة في قطاع غزة في ظل حرب الإبادة"، قال د. رأفت الأعرج، المشرف الإقليمي للرقابة بسلطة النقد، إن تراجع الدور الرقابي سببه الظروف الأمنية وحالة النزوح دون وجود تعمد، مشيراً إلى أن السلطة تحاول، وفق الإمكانيات المحدودة، متابعة المشاكل وحلها.
وأشار إلى أن منظومة الخدمات الإلكترونية التي دشنتها سلطة النقد كان لها بالغ الأثر في تمكين المؤسسات المالية من الاستمرار بتقديم خدماتها رغم التحديات.
غائبة عن دورها
وفي سياق أزمة فقدان السيولة في قطاع غزة، وصف أحد المحللين الاقتصاديين ورجل أعمال - فضّل عدم ذكر اسمه لحساسية الوضع - أداء سلطة النقد خلال الحرب بأنه غائب شبه كلي، خاصة في غزة. وأوضح أن السلطة لم تقم بدورها في تأمين تدفق السيولة النقدية بالتنسيق مع البنوك أو المؤسسات الدولية، كما لم تضغط لإدخال كميات كافية من الشيكل والدولار، ما عمّق الأزمة بعد توقف الرواتب والمساعدات.
وأشار إلى أن السلطة لم تُفعّل أدوات الرقابة لمنع استغلال المواطنين عبر فرض عمولات مرتفعة، ولم تصدر إجراءات رادعة بحق المخالفين أو توجيهات تحمي المستفيدين من التحويلات. كما غابت أي مبادرات لإطلاق حلول تقنية مثل الدفع الإلكتروني أو المحافظ الرقمية لتقليل الحاجة للكاش.
الطريق إلى الحل
أوصى وائل بعلوشة، مدير مكتب ائتلاف أمان في غزة، بزيادة التنسيق بين سلطة النقد والجهات الحاكمة في غزة لتوفير بيئة رادعة للمحتالين، ولحماية المواطنين من الابتزاز المالي. ودعا إلى تعزيز السيولة لدى الصرافين المرخصين لضمان قيامهم بمهامهم وفق الضوابط الرسمية.
كما أوصى بعلوشة بتعزيز المساءلة المجتمعية عبر إنشاء أجسام تنسيقية خلال الحرب تضم ممثلين عن سلطة النقد والعشائر وجهات إنفاذ القانون في غزة، لتنسيق حملات مناصرة، ورفض تعرض المواطنين للابتزاز عند سحب أموالهم أو استقبال حوالات.
وأكد ضرورة إطلاق مبادرات وطنية لتعزيز النزاهة والمساءلة من خلال لجان محلية تضم ممثلي الغرف التجارية، ولجان الأحياء، والقطاع الخاص، لنشر قوائم سوداء للمتورطين بالتكييش، ورفعها للجهات المختصة.
كما طالب بدعم البنية التحتية للبنوك، وتوفير الإنترنت والسولار لضمان تشغيل ما أمكن من الفروع. ودعا إلى الضغط على الاحتلال لاستبدال العملات المهترئة، وتوعية المواطنين بقوة الإبراء القانوني للعملات القديمة.
وشدد على ضرورة تحفيز موظفي سلطة النقد للقيام بدورهم، وزيادة الزيارات التفقدية، وتفعيل دور فروع السلطة في غزة لتلقي الشكاوى، والتعاون مع الغرف التجارية لمحاسبة التجار الذين يفرضون عمولات طائلة.
في ظل غياب سلطة النقد، يقف المواطن في غزة بين فكي سماسرة التكييش وسلطة تكتفي بالصمت أو الحد الأدنى من الإجراءات. وبين هذا وذاك، يظل التساؤل قائماً: من يحمي الناس من الجوع المالي في زمن الحرب؟