غزة/ البوابة 24- محمد أبو دون:
لم تتوقع الشابة الفلسطينية أنوار، البالغة من العمر 27 عامًا، أن تتعرض لموقف مهين في إحدى النقاط الطبية الأهلية التي تعمل على توزيع المكملات الغذائية والحليب الصناعي للأطفال شمالي مدينة غزة، خلال حرب الإبادة المستمرة على قطاع غزة منذ أكثر من 620 يومًا.
توجهت أنوار إلى تلك النقطة قبل نحو أسبوعين، بعدما سمعت ببدء توزيع بعض المكملات الغذائية للأمهات المرضعات والحليب الصناعي للأطفال الرضع، خصوصًا في ظل المجاعة القاسية التي يعاني منها أهالي القطاع نتيجة إغلاق إسرائيل للمعابر ومنعها إدخال السلع والمواد التموينية والمساعدات منذ ما يزيد على 100 يوم.
عند وصولها، وجدت عشرات النساء ينتظرن دورهن، وراقبت أنهن يدخلن واحدة تلو الأخرى لغرف التوزيع برفقة أطفالهن، ثم يخرجن دون الحصول على ما جئن لأجله. سألت إحدى السيدات، فأخبرتها أن المسؤولة عن التوزيع طلبت منها إجراء فحص للتأكد من حاجتها لتلك المواد.
وعندما حان دور أنوار، دخلت الغرفة، وبعد معاينة طفلتها ذات الستة أشهر، أخبرتها الطبيبة أن الطفلة تبدو بصحة جيدة ولا تحتاج إلى حليب الصناعي!
حاولت أنوار إقناع الطبيبة بأنها لا تستطيع إرضاع طفلتها طبيعيًا نتيجة لغياب التغذية السليمة، وأضافت: "حاجتي للحليب والمكملات الغذائية ملحّة، أولًا لأنها من حق الطفل، خصوصًا في ظل المجاعة، وثانيًا لأنها غير متوفرة في الأسواق لتعويض النقص في جسد طفلتي كي تنمو بشكل سليم".
وتتابع: "طلبوا مني بعد ذلك إجراء تحليل دم للتأكد من ضعف قدرتي على الإرضاع الطبيعي قبل منحي علبة حليب وبعض حبوب المكمل الغذائي، فرفضت ذلك بشدة وغادرت المكان دون الحصول على ما يلزم لطفلتي".
وتساءلت بأسى: "منذ متى يتم فحص الأمهات المرضعات؟ كلنا نعلم أن الطفل يحتاج أحيانًا إلى الحليب الصناعي والمكملات الغذائية حتى في الظروف العادية، فكيف في ظل المجاعة الحالية؟".
وتشير أنوار إلى أن بعض الباعة يعرضون نفس الحليب الصناعي الذي يُفترض أن يتم توزيعه في النقاط الطبية، رغم أنه لم يدخل السوق التجاري، ما يدل على سرقة الكثير من حصص الأطفال وبيعها، بينما يُترك الأطفال لمصيرهم من الجوع والمعاناة.
حالة مشابهة روتها الفلسطينية ريهام (39 عامًا)، وهي أم لأربعة أطفال، أصغرهم وُلد قبل ثمانية أشهر خلال حرب الإبادة على غزة. تخبرنا أنها تتوجه دوريًا إلى إحدى العيادات في حي تل الهوى جنوب مدينة غزة لإجراء فحوصات روتينية لطفلها ومحاولة الحصول على حليب صناعي وبعض المكملات الغذائية إن توفرت.
وتشير إلى أن زيارتها الأخيرة لتلك العيادة كانت قبل نحو ثلاثة أسابيع، ولم تحصل خلالها على الحليب أو المكملات، لأن العاملين هناك طلبوا منها إجراء تحليل دم، وبعده أبلغوها أن طفلها لا يحتاج إلى الحليب الصناعي.
وتشير إلى أن تقبّل هذا الأسلوب كان صعبًا عليها، لكنها اضطرت للموافقة؛ لتوفير الغذاء لرضيعها، وتكمل: "المجاعة التي نعيشها في غزة قاسية، ولا أظن أن أحدًا يحتاج إلى فحص لإثبات نقص العناصر الغذائية في جسده وحاجته للمكملات".
وقد خلّفت حرب الإبادة آثارًا صحية خطيرة على الأمهات الحوامل والمرضعات، إذ أدى انعدام الغذاء والحليب الصناعي إلى إصابة مئات الأمهات والأطفال بأمراض متنوعة. من بينهن الثلاثينية فوزية أبو كوش، التي رزقت بتوأمها رنا ومحمود قبل أربعة أشهر، وتكابد منذ ولادتهما لتوفير الحليب، بعدما توقّف إدخاله إلى قطاع غزة بسبب إغلاق المعابر. وهي لا تستطيع إرضاعهما طبيعيًا لعدم توفر الأطعمة المناسبة للمرضعات.
تعيش فوزية في خيمة بمنطقة المواصي جنوبي القطاع، وتؤكد أنها اضطرت في إحدى الفترات لإرضاع طفليها من "الحليب المخصص للحلويات"؛ لعدم وجود أي بديل يسد جوعهما.
وتقول: "طرقت أبواب مؤسسات عدة ووزارة الصحة لتوفير الطعام والحليب، لكن دون جدوى، رغم أنني أرى أحيانًا علب الحليب التي تدخل كمساعدات تباع في الأسواق بأسعار فلكية تفوق قدرة 95% من سكان القطاع على شرائها بسبب انعدام السيولة النقدية".
بدوره، قال الدكتور أحمد الفرا، مدير مستشفى الأطفال والولادة في مجمع ناصر الطبي بخان يونس، جنوب قطاع غزة، في حديثه لـ"البوابة 24": "الحليب الصناعي اختفى تمامًا من مستودعات مشافي وزارة الصحة، ومن غالبية المرافق الصحية التابعة للقطاع الأهلي أيضًا".
وبيّن أنه خلال الفترات التي كان الحليب متوفرًا فيها، اتبعت الوزارة آلية توزيع دقيقة تضمن وصوله فقط للأطفال الذين تثبت الفحوصات الطبية حاجتهم إليه، إذ يتم فتح ملف صحي خاص بكل طفل، يُحدّث بشكل دوري وفق نتائج الفحوصات والمتابعة، ليُقرر بعدها مدى استحقاق الطفل للحصول على الحليب الصناعي".
وفيما يخص ما يُتداول عن إخضاع الأمهات لفحوصات لتحديد أهليتهن للحصول على الحليب لأطفالهن، نفى الدكتور الفرا أن تكون الجهات التابعة للوزارة تمارس هذا النوع من الفحص، مشيرًا إلى أن مثل هذه الإجراءات قد تتم أحيانًا في بعض النقاط الطبية التي تديرها جمعيات أو مبادرات أهلية، خاصة في ظل تعذر قدرة الوزارة على متابعة جميع هذه النقاط، نتيجة الاستهداف المتكرر للطواقم الصحية التابعة لها.
وأضاف: "العديد من الجهات الأهلية والفردية كانت تساند الوزارة في توزيع الحليب عندما كان متوفرًا، أما في الوقت الراهن، فالجميع –بمن فيهم المستشفيات– يواجه واقعًا كارثيًا يتمثل في الانقطاع الكامل للحليب الصناعي، سواء العادي أو العلاجي، بسبب منع الاحتلال دخوله إلى القطاع منذ ما يقارب أربعة أشهر، ما يشكل تهديدًا مباشرًا لبقاء الأطفال على قيد الحياة، خاصة في ظل أزمة المجاعة الحالية وعدم قدرة الكثير من الأمهات على الإرضاع الطبيعي".
وختم الفرا بمناشدة واضحة للمؤسسات الدولية والحقوقية، داعيًا إياها إلى التدخل الفوري لتأمين الحليب للأطفال الرضّع في غزة، وإنقاذ الأمهات من خطر تدهور وضعهن الصحي نتيجة سوء التغذية ونقص العناصر الأساسية.