بقلم: مروان إميل طوباسي.
بالمجمل، فإن زيارة نتنياهو إلى واشنطن أكدت أن وجود ترامب في الحكم للمرة الثانية أعاد تمكين نتنياهو من تنفيذ رؤيته دون قيود، وهو ما يُنذر بمزيد من الحروب الاستكمالية، وتصفية سياسية متسارعة لحقوق شعبنا الفلسطيني، وسط عجز دولي وعربي شبه تام، وفي ظل مفاوضات لوقف إطلاق النار، على أهميته القصوى الإنسانية لوقف آلة القتل، إلا أنه مسار يهدد باستمرار الحرب وبفرض رؤية الاستحواذ الإسرائيلي على غزة بعد تدميرها وجعلها مكانًا غير صالح للحياة.
فبينما لا تزال غزة تحترق تحت القصف والإبادة الجماعية، وتستمر محاولات تصفية القضية الوطنية التحررية الفلسطينية، تتجه الأنظار غربًا حيث تتشكل ملامح مرحلة أكثر خطورة علينا وعلى النظام العالمي بأسره. فسياسات الهيمنة الغربية، التي تمارس أقصى درجات العنف والإرهاب في منطقتنا، تعود اليوم بثوب أكثر عنفًا في أوروبا نفسها من خلال قرارات تعيد عسكرتها وتذكر بزمن صعود النازية فيها.
المجزرة المفتوحة في غزة، وما رافقها من دعم البعض الأوروبي والشراكة الأمريكية غير المشروطة للاحتلال الإسرائيلي الإحلالي، ليست معزولة عن مشروعهم الأوسع الذي يعيد إنتاج منطق القوة والغطرسة بوصفه الأداة الوحيدة لإدارة العالم. من هنا، لا يمكن فصل عسكرة الاتحاد الأوروبي، وعودة دونالد ترامب إلى الواجهة، عن استمرار مشاريع التوسع والحرب في منطقتنا، ولا عن محاولات فرض "شرق أوسط جديد" بالقوة.
\-- أوروبا على مفترق طرق، عسكرة شاملة أم أمن مشترك؟
يثير برنامج "إعادة تسليح أوروبا" الذي أطلقه الاتحاد الأوروبي مؤخرًا جدلًا متصاعدًا، مع توجهاته لضخ أكثر من ٨٠٠ مليار يورو في الصناعات العسكرية. إنه نهج سياسي واقتصادي مدمر يُهدد بتحويل الموارد من قطاعات أساسية كالصحة والتعليم إلى جيوب المجمعات الصناعية العسكرية.
هذا التوجه يعكس تصاعدًا خطيرًا في النزعة العسكرية، وتغول التيارات اليمينية المتطرفة والشعبوية، وسط تغييب متعمد للرأي العام والقوى الشعبية. في واقع الأمر، ما نشهده اليوم هو مشروع عدواني تُديره نخب سياسية واقتصادية أوروبية وأمريكية مأزومة، تحاول جاهدة الحفاظ على مكانتها في عالم يتغير لصالح التعددية القطبية، وهو ما يعيد إلى الذاكرة فترة ما قبل الحرب العالمية الثانية.
إن تدفيع المواطنين الأوروبيين ثمن العقوبات ضد روسيا، عبر ارتفاع أسعار الطاقة والاستعاضة عن الغاز الروسي بالغاز الأمريكي الأغلى، كشف عمق التبعية الأوروبية للولايات المتحدة، ليس فقط اقتصاديًا، بل سياسيًا وثقافيًا أيضًا، رغم الحديث عن خلافات بينهم بين الفينة والأخرى، في وقت يواصل "حلف الناتو" الذي يجمعهما من جهته تنفيذ خطته القديمة بمحاولة محاصرة روسيا وتقويض دورها في ظل انعدام رؤية وافتقار إلى توازن سياسي عقلاني.
وفي وقت تُوجه من جهة أخرى الاتهامات للاتحاد الأوروبي بالتواطؤ في انتهاك القانون الدولي بسبب صفقة غاز وقّعها مع إسرائيل ومصر قبل عامين، التي تعتمد على أنبوب "خط غاز شرق المتوسط" يمر بمحاذاة ساحل غزة دون موافقتنا نحن الفلسطينيين، ما يُعد اعتداءً على السيادة الفلسطينية وفق القوانين الدولية. التقرير الذي نشرته جريدة الغارديان اعتبر أن هذا التعاون يُساهم فعليًا في تمويل العدوان على غزة. فبالرغم من المجازر المستمرة، يواصل الاتحاد الأوروبي دعمه لإسرائيل بمجالات متعددة بلا مساءلة من خلال النفاق السياسي.
\-- تأجيل المؤتمر الدولي لدعم مبدأ حل الدولتين.
ومن جهة أخرى، فإن تأجيل المؤتمر الدولي لدعم مبدأ حل الدولتين الذي أفرغه الغرب من المضمون واستخدموه لاستدامة الاحتلال والتسويف في تجسيد إقامة الدولة الفلسطينية، والذي كان يفترض أن يُعقد في حزيران الماضي برعاية فرنسية–سعودية، كان أول مؤشر فعلي على تراجع باريس كأهم عاصمة بالاتحاد الأوروبي عن "وعد ماكرون" الاعتراف بدولة فلسطين، أو على الأقل على غياب الإرادة السياسية الحاسمة للمضي قدمًا في مواجهة الضغوط الأمريكية والإسرائيلية، الأمر الذي أكدته بعض التقارير الصحفية الدولية الصادرة أمس.
\-- ترامب من جديد، عسكرة العالم وإذلال الشعوب.
في هذا السياق المتوتر، يعود دونالد ترامب منذ بدء دورته الرئاسية الثانية ليرسم معالم مرحلة أكثر قسوة من الأولى بعد أن صاغ فكرة "صفقة القرن" وبتخبط سياسي وإداري لم نشهد له مثيلًا في تاريخ رؤساء الولايات المتحدة، أعلن خلالها عن عزمه إعادة تزويد أوكرانيا بالأسلحة الأسبوع الماضي، في انسجام تام مع مشروع التسليح الأوروبي، وكأن الطرفين يجهزان لموجة جديدة من النزاعات العالمية وخلق بؤر توتر جديدة.
لم يكتفِ ترامب العقائدي وصاحب فكر الصفقات التجارية بهذا وبالحديث عن "الدرع الإبراهيمي" في منطقتنا، بل ووجه تهديدات صريحة إلى الصين، وهاجم موسكو، وأرسل إشارات واضحة بأن عودته إلى الحكم تعني سياسات أكثر تطرفًا وعدوانية، لا تجاه الخصوم فقط، بل حتى تجاه الحلفاء.
لقاؤه الأخير مع زعماء أفارقة في البيت الأبيض كشف حجم الغطرسة والازدراء الذي يكنه ترامب للشعوب غير الأوروبية، في مشهد يعيدنا لعقليات الاستعمار القديم، حيث يُراد للعالم أن يُدار بالعصا والنار، لا بالشراكة.
\-- ترامب وازدراء القانون الدولي، سياسة فوقية لا تعترف بالعالم.
ضمن عودته الثانية الصاخبة الذي أشغل العالم بها، لم يكتفِ دونالد ترامب بتهديد الخصوم واحتقار الحلفاء وجمع أموالهم بمئات المليارات، بل واصل نهجه في ازدراء المنظمات الدولية، مُعيدًا إلى الواجهة ممارساته العدوانية السابقة ضد المحكمة الجنائية الدولية، حين فرض عقوبات على قضاتها بسبب تحقيقاتهم في جرائم حرب ارتكبتها إسرائيل وأمريكا.
كما لوّح بالعقوبات مجددًا بحق دول مختلفة حتى من حلفاء الولايات المتحدة التقليديين، وضد منظمة الأمم المتحدة ومؤسسات أممية أخرى، كما وبحق "فرنسيسكا البانيزي"، وهدد دول أمريكا اللاتينية التي لا تسير في فلكه، كما وحظر على الرئيس الكوبي تأشيرة دخول للولايات المتحدة، متجاهلًا مبدأ السيادة والقانون الدولي، في وقت يسعى هو لجائزة نوبل للسلام بترشيح من نتنياهو كمجرم حرب، كما سعى "هتلر" هزليًا لهذه الجائزة عام ١٩٣٨، بما يؤكد أن التاريخ يعيد نفسه، مرة على شكل مهزلة والأخرى على شكل مأساة. في هذا الإطار، جاء الرد الشجاع من عدد من القادة الأفارقة ومن الرئيس البرازيلي التقدمي اليساري "لولا دي سيلفا"، الذي انتقد علنًا سياسات ترامب، ورفض الخضوع للابتزاز السياسي الأمريكي، مؤكدًا أن "زمن التبعية قد انتهى، والعالم الجديد لا يُبنى بالتهديدات بل بالعدالة والمساواة والتوازن".
\-- السياسات نفسها والأدوات تتغير.
ما يحدث اليوم من عسكرة للاتحاد الأوروبي، وتصعيد أمريكي، هو في جوهره استمرار للمشروع ذاته الذي دعم نظام الانقلاب في أوكرانيا ضد الديمقراطية منذ عام ٢٠١٤ والعدوان الإسرائيلي على غزة، وموّل العدوان على إيران وساهم به، وقبل ذلك في يوغوسلافيا والصومال وأفغانستان وغيرها، كما وحروب التقسيم والتفتيت والفوضى في العالم العربي وتدمير مؤسسات الدولة الوطنية القومية فيه.
\-- السياسات واحدة، وإن اختلفت الجغرافيا.
ما يُراد تطبيقه بحرب الوكالة من خلال أوكرانيا ضد روسيا يُستنسخ برؤية الهيمنة والتوسع الاستعماري الاستئصالي في فلسطين. وما يُخطط له في تايوان يُجرب في سوريا بعد أن قاموا بتنصيب "التكفيري الأمريكي - التركي - الخليجي أحمد الشرع الجولاني" وما سيتبعه في لبنان إثر تهديدات المبعوث الأمريكي أمس، فالقوة هي المبدأ، والعدالة غائبة دائمًا.
\-- لا مخرج إلا بإرادة الشعوب.
هذا العالم الذي يُراد لنا أن نعيش فيه تحت سطوة الغطرسة لا مستقبل له. عسكرة أوروبا لن تمنحها أمنًا، وتهديدات ترامب لن تُخضع الصين ولا تُسكت الفلسطينيين ولا تُرهب روسيا ولن تُعيد عصر عبودية العرق الأسود أو نجاح الانقلابات العسكرية الديكتاتورية الفاشية في القارة اللاتينية كالسابق.
\-- بين فوقية العِرق الأبيض وروح الرأسمالية الفاشية.
لا يمكن فصل هذه السياسات المتجددة من عسكرة أوروبا إلى غطرسة ترامب، ذات الأبعاد الحضارية والجيوسياسية والاقتصادية عن الجذور الفكرية العقائدية والثقافية التي تستند إليها، وهي في جوهرها امتداد لثقافة التفوق العرقي الأبيض العنصرية التي نشأت في ظل المنظومة الأنجلو - ساكسونية، ووجدت في الاستعمار القديم مشروعها الأول، وفي الرأسمالية المتوحشة مشروعها الحديث.
إن منطق السيطرة الذي يحكم خطاب ترامب ومعه نتنياهو كحارس خط الدفاع الأول عن حضارة الغرب الاستعماري من مخاطر الشرق عليها، ومثله العديد من الساسة الأوروبيين، يستند إلى رؤية عنصرية تُقسم العالم إلى "شعوب متحضرة" تستحق الهيمنة و"شعوب متأخرة" تستحق الإخضاع، أو يُعاد تشكيلها وفق هندسة استعمارية ناعمة أو خشنة.
في المقابل، فإن الرأسمالية النيوليبرالية التي يتبناها الغرب لم تعد مجرد نظام اقتصادي قائم على السوق، بل أصبحت نموذجًا فاشيًا في جوهره، يُقدس جشع الربح والمال على حساب الإنسان، والشركات الكبرى الاحتكارية والمتعددة الجنسيات على حساب الحكومات، ويبرر الحروب بوصفها فرصًا للاستثمار، ويفرض الصمت على الشعوب من خلال القمع الإعلامي و"حروب الرسوم الجمركية" التي سترتد على الأمريكيين أنفسهم وتزيد من تفاقم أزماتهم الاقتصادية والاجتماعية ونزاعات الانفصال لعدد من الولايات. إضافة إلى فرض الرقابة حتى على الأفراد والعقوبات ومحاولة السيطرة التكنولوجية بالذكاء الاصطناعي الذي يُسخر اليوم لأعمال السيطرة والقمع والحروب والإبادة.
هذا التزاوج بين العنصرية الثقافية والاستغلال الاقتصادي العسكري هو ما يُنتج اليوم خطاب الغرب ضد فلسطين، وفي أوكرانيا، وفي أمريكا اللاتينية، وفي أفريقيا. وهو ما يجعل من مقاومتنا لهذه السياسات مع شعوب تلك القارات، ليست فقط مقاومة سياسية، بل معركة تحرر إنساني شامل من نظام عالمي فاسد في قيمه، متعجرف في منطقه، وخطِر في أدواته.
\-- نحن والآفاق المطلوبة
لكننا نحن الفلسطينيون كجزء من شعوب العالم التي تتحرك يوميًا لمناصرتنا، ومكوَّن من معذبو الأرض، مطالبون اليوم بأن نعيد بناء ذاتنا الوطنية وتحالفاتنا الدولية، وأن نُدرك أن لا خلاص إلا بالوحدة والإرادة السياسية والتحرر من منطق الاستعمار والتبعية.
فكما تقاوم القدس التي يتجدد يوميًا الاعتراف بها أمريكيًا كعاصمة موحدة لإسرائيل، ضد التهويد والتفريغ، وغزة ضد الحصار والإبادة والقصف ومشروع "غيتو رفح" كمقدمة للتهجير، والضفة الغربية ضد إرهاب المستوطنين وتهجير المخيمات، وكما ترفض شعوب أفريقيا الإذلال وتقف شعوب أمريكا اللاتينية منتصبة، وكما يصمد الشرق رغم الجراح، فإن الأمل لا يزال ممكنًا شرط أن نمتلك الوعي الجمعي بضرورة إنهاء الانقسام السياسي الاجتماعي وتنفيذ "مبدأ الشعب هو مصدر السلطات" وبضرورة حماية شعبنا من إرهاب المستوطنين بالحد الأدنى، وبتشكيل حكومة وحدة سياسية اجتماعية تحظى بتوافق وطني شامل لمواجهة مخططات ما يسمى "باللجنة الإدارية" في غزة وخلق مجموعات عميلة "كظاهرة أبو شباب"، والإرادة والجرأة على مواجهة مخططات الانتقال إلى أشكال جديدة من العدوان الاستعماري ضد شعبنا في كل فلسطين من أجل وقف عدوان الإبادة وتمكين شعبنا من حق تقرير المصير والاستقلال الوطني في وطنه الذي لا نملك سواه.