ترعى ثلاث شتلات: شحدة وموسى وخليل.. الأسماء لا تموت في بيت "جميلة".. شهداؤها "ريحان"!

جميلة سحويل
جميلة سحويل

غزة/ أميرة نصار:

عند السادسة صباحًا، كانت جميلة سحويل تقف بين أصص النعنع والريحان في فناء بيتها المؤقت. سقت أولى الشتلات وهمست: "صباح الخير يا شحدة"، ثم انحنت لتقبّل شتلة الريحان التالية: "صباح الخير يا موسى"، لتزيح بعدها برفق الورقات الصفراء عن الشتلة الثالثة وهي تقول: "صباح الخير يا روحي يا خليل".

يدهشك تعامل جميلة مع تلك الشتلات. هي لا تتعامل معها على أنها أوراقٌ خضراء وحسب.. لقد باتت جزءًا من روحها بعدما أعطتها أسماء أحبتها الأربعة (ابنيها وزوجها)، الذين حصدهم القصف الإسرائيلي في خانيونس، جنوبي قطاع غزة، دون أن تسنح لها فرصة وداعهم أو حتى إلقاء النظرة الأخيرة عليهم.

تروي جميلة (52 عامًا) قصّتها بصوتٍ مُتهدّج، وهي تسقي النعنع بأناملها: "وُلدتُ يتيمة، وتزوجتُ شحدة سحويل، وأنجبتُ ثلاثة أولاد، كانوا أجمل ما في حياتي. وعدت نفسي أن أُعوّضهم عن اليُتم الذي عشته، وأسعدهم بقدر ما أستطيع. كبروا وتزوجوا وفرحت بهم، ثم قتلتهم إسرائيل بلحظة واحدة".

جميلة.jfif
 

وسط أصص النعنع والباذنجان والأوليفيرا، تجد جميلة عزاءها. لا تفارقها هذه النباتات منذ لحظة استشهاد عائلتها. تقول: "أنا متعلقة بالزراعة كثيرًا، هي كل حياتي الآن. ليست هواية عابرة، بل هم عائلتي التي قُتلت".

في يوم الجمعة 24 شباط/فبراير 2024م، ومع زخّات الرصاص وتقدم الدبابات الإسرائيلية نحو خانيونس، نزحت جميلة برفقة زوجات أبنائها وأحفادها إلى رفح، فيما بقي زوجها المُصاب شحدة (56 عامًا)، وأولادها موسى (36 عامًا) وخليل (35 عامًا) خلفها، على وعد بأن يلتحقوا بها لاحقًا.

لكن الاتصال انقطع. وفي اليوم نفسه، أخبرها الجيران بأن شحدة استُشهد. أما موسى وخليل، فارتقيا في اليوم التالي. تصمت جميلة طويلًا، ثم تتابع: "بقوا 15 يومًا في الشارع، لم يستطع أحد الوصول إلى خانيونس. دفنهم الجيران في المنتزه المقابل لبيتنا، ثلاثتهم في قبر واحد. بعدها أخذتهم النقطة الطبية ودفنوا في دير البلح".

باتت الأسماء الثلاثة محفورة في ذاكرة جميلة، كما هي محفورة على أصص الريحان والنعنع أمامها. كل ورقة خضراء تكبر، كأنها تعيد إحياء حكاية من غابوا. "حين أكون حزينة، أجلس بجوارهم. أسقيهم، أنظف حولهم، وأحدثهم عن شوقي، عن الحرب، عن التجويع. استُشهدوا لكنني أراهم في الريحان، وأستأنس بوجودهم".

لا تخطئ الأم أسماءهم بين الشتلات. "من بين كل الزرعات، أعرفهم. كاتبة أسماءهم على الأصص. لا أقطف منهم، ولا أعطي أحدًا منهم. أما الزرعات الأخرى، فأعطي من يطلب، لكن شحدة وموسى وخليل خط أحمر".

كل صباح، تسقي جميلة الشتلات كأنها تسقي أبناءها، تهمس لهم بالدعاء، وتشتمُّ النعنع كما لو كانت تشم رائحة أرواحهم. تقول وهي تبتسم بحزن: "كنا نجتمع على الفطور ونشرب الشاي بالنعنع. موسى، بكري، دائمًا يقول لي: جميلة! جبتلك خضرة. جيراني كانوا يضحكون ويقولون: أولادك زي الحراس الشخصيين، دايمًا ماشيين وراكي".

ترسل جميلة رسالتها لكل من فقد: "أولادنا نربّيهم بدمع العين، وأرواحهم ثمينة. صحيح أنهم غابوا، لكنهم أحياء. علينا أن نخرج من حالة الفقد والموت. نزرع شتلة، نرعى قطة، أي شيء يساعدنا أن نتحمّل الوجع".

في تربة الموت، نبت الريحان والنعنع بأسماء الشهداء. ومع كل ورقة تكبر، تنمو ذكرى، ويشتد الحنين.

نوى