غزة/ البوابة 24- حلا أبو عيشة:
على فراش الشفاء، داخل خيمتها بدير البلح، وسط قطاع غزة، تحاول النفساء (غ.م) رفع رأسها لشرب رشفة ماء. لقد عادت لتوّها من المستشفى بعد ولادةٍ عسيرة، بدأت بمخاضٍ وطلقٍ في كشك الولادة الطبيعية، وانتهت بإفاقة بعد عمليةٍ قيصرية قُررت لإنقاذ المولود، الذي كاد يفقد حياته بسبب ضعف تقلصات الرحم، ونحول جسد أمه.
تحكي والدتها لـ"البوابة 24": "من كان يراها قبل الولادة بأيام، لا يصدق أنها كانت في شهرها التاسع. بطنها صغير، وجسدها هزيل بسبب قلة الطعام"، مشيرةً إلى أن وضع الجنين كان طبيعيًا حتى دخلت كشك الولادة، وهناك حدث ما لم يكن بالحسبان".
تضيف الأم، التي جلست أمام نيران الحطب تطهو بعض العدس الذي حصلت عليه بصعوبة، لابنتها النفساء: "لم تأكل ابنتي الخبز منذ أسابيع. كل ما تمكنت من أكله بعضًا من المعكرونة، وعانت بسبب قلة المياه من الإمساك الشديد".
ووفقًا لمكتب الأمم المتحدة للسكان، فإن 50 ألف امرأة حامل ومرضعة في غزة لم يتناولن الطعام منذ أيام، مشيرًا إلى أن أطفال القطاع يتهددهم خطر الولادة المبكرة والموت والتعرض لمشاكل صحية مدى الحياة.
في كشك الولادة عانت (غ.م) من عسر الولادة، بسبب ضعف في تقلصات الرحم، فلم تستطع دفع الطفل إلى الخارج، في حين أخبرها الطبيب أن الطفل نفسه عانى من صعوبة المرور عبر قناة الولادة؛ بسبب صغر حجمه وضعف بنيته، "ولهذا قرر تحويلها للولادة القيصرية على الفور" تزيد الأم.
على فراشها تبكي السيدة النفساء، بينما تضع أمها الطفل على صدرها. حتى الرضاعة صارت مستحيلة، في ظل غياب الأطعمة المغذية. "لا تمر، ولا حلبة، ولا مرق لحم، ولا أي طعام يمكنه المساعدة في إدرار الحليب" تختم الأم بحرقة، بينما تحاول الهدهدة للطفل الذي لم يستطع أن يتلقم ثدي أمه.
(غ.م) ليست الحالة الوحيدة، التي تعيش "الموت" على شكل "ولادة" بسبب المجاعة المتفشية في قطاع غزة، منذ أغلقت "إسرائيل" منافذ الغذاء لقطاع غزة، في آذار/ مارس الماضي، بالتزامن مع استئناف الإبادة.
حالة عامة
الصحافي صالح الناطور، كتب على صفحته في "فيسبوك" قبل عدة أيام: "تصوروا أنهم منعوا حتى الجنين أن يخرج من رحم أمه. واحدة من آثار المجاعة المميتة، يخبرني طبيب النساء والولادة د.محمد الرقب، بأن معظم النساء الحوامل لا يقدرن على دفع الجنين عندما تحين فترة الولادة. تُمضي الأم فترة طويلة في المخاض ولا تستطيع أن تُخرج جنينها بشكل طبيعي نتيجة حالة الضعف الشديد والجوع القاتل، فيضطر الأطباء في النهاية لشق بطن الأم وإخراجه. معدلات الولادة القيصرية تزداد كذلك بشكل مخيف، ووزن معظم المواليد يقل عن 2.5 كجم وهذا أمر خطير سيؤثر على قدرات الطفل الجسدية والعقلية مستقبلًا".
وينتج انخفاض وزن الجنين عند الولادة عن تأخر النمو داخل الرحم، أو الولادة المبكرة، أو كليهما. ويساهم في مجموعة من النتائج الصحية السيئة؛ ويرتبط ارتباطًا وثيقًا بوفيات الأجنة وحديثي الولادة، واعتلالهم، وتأخر النمو والتطور المعرفي، والأمراض غير المعدية في مراحل لاحقة من الحياة.
مروى، التي اكتفت بذكر اسمها الأول، تحمل بين يديها طفلها البالغ من العمر أسبوعين. قالت لـ"البوابة 24": "أنجبته في الشهر الثامن، ومكث أسبوعًا في الحضّانة".
لم يزد وزن الطفل جرامًا واحدًا نتيجة قلة الرضاعة، "فلا غذاء أقيت به نفسي لأعطيه منه" تعقب الأم بأسى.
وتحكي عن ولادتها العسيرة، فتقول: "كان وضع الجنين طبيعيًا في رحمي. بدأ عندي المخاض فجرًا، وكان الوجع لا يحتمل. أخذني زوجي إلى المشفى، فأخبروه أنني ألد. كان هناك مسافة أسبوع قبل أن أدخل الشهر التاسع، لكن يبدو أن جسدي لم يتحمل مزيدًا من هذا الثقل في ظل الهزال والمجاعة وسوء التغذية".
بسرعة، حُولت مروى إلى قسم الجراحة لإجراء عملية قيصرية. وُلد "محمد" الذي يعاني الاصفرار، وأوصى الأطباء بأن يستمر في الرضاعة قدر المستطاع، بينما أمه لا حليب في ثديها. "ولا أعرف إن كان سينجو أو لا؟" تقول بحرقة.
ضعف مناعة والتهابات
ويتحدث الدكتور شعبان شراب، استشاري جراحة النساء والولادة وعلاج العقم، عن ارتفاع كبير في حالات الولادات القيصرية، بسبب سوء التغذية.
ويقول: "سوء التغذية تسبب أيضًا بارتفاع شديد في حالات الإجهاض لدى الحوامل، وولادة أجنة دون المستوى المطلوب من الوزن، بالإضافة إلى حالات مهولة من الولادات المبكرة"، مضيفًا: "في الظروف الصعبة التي تعيشها النساء في قطاع غزة، من الصعب الحصول على وجبة واحدة، بل إن بعض الحوامل لا يحصلن عليها، بالإضافة لشح ماء الشرب، هذا كله أثر بشكل كبير على قدرة السيدات على الاستمرار في حمل طبيعي وولادة طبيعية وإنجاب جنين طبيعي حتى".
وتحدّث عن تأثير الجوع وقلة التغذية على الحوامل أثناء عملية الولادة، فقال: "تفقد السيدات عمومًا القدرة الجسدية في حال الجوع. ينهار صمودهن أمام ضعف الحيلة، فما بالكم ونحن نتحدث عن حوامل في كشك الولادة؟".
تعاني الحامل خلال عملية الولادة من صعوبة الدفع، وهذا (والحديث لـ د.شراب) يطيل عملية الولادة، وبالتالي يزيد من حجم التوتر على الأم والطاقم الطبي، ناهيكم عن زيادة الضغط على الجنين الذي قد ينتهي الأمر بشفطه، "وهذا الأمر ليس بسيطًا، فقد يتسبب بنزيف مفاجئ للأم التي تعاني أصلًا من نقص المناعة".
وأشار إلى نقص المستلزمات الطبية، الخاصة بعملية التغريز والتعقيم، "وهذا يتسبب بالتهابات شديدة (..) سوء التغذية، يعني ضعف مناعة، يعني التهابات ونزلات معوية تشمل القيء والإسهال في ظل انعدام التغذية أصلًا"، متسائلًا: "من أين تأتي السيدة التي عليها أن تعيش ظروف الحرب الصعبة من طبخ على النار وغسل يدوي، ومعيشة في خيمة، بالإضافة إلى مضاعفات الحمل ونقص احتياجاته في ظل المجاعة، بالقوة، لتدفع جنينها وتلده بسلام؟".
اكتئاب ما بعد الولادة
ولفت إلى أن سوء التغذية، وضعف قدرة الأم على العناية بالجنين، رفع معدلات الإصابة باكتئاب ما بعد الولادة، بالتزامن مع العيش في ظروف الحرب المزرية، وقلة الطعام، وعدم المقدرة على توفير الحليب للرضع.
وأشار إلى أن الكثيرات بعد الولادة، لجأن لعلاجات منتهية الصلاحية؛ نتيجة نقص الأدوية في مستشفيات غزة، "فحتى اللجوء للأعشاب صار معجزة في ظل اختفائها تمامًا. لا يوجد أي شيء يمكن اعتباره بديلًا للغذاء في قطاع غزة" يُعقب بانفعال.
وعبّر الدكتور شراب، عن يأسه من أي حراك دولي، قائلًا: "وهل تبقت رسالة لم نرسلها للعالم؟ نحن نعيش محرقة، إبادة حقيقية، الناجي من القصف يموت نتيجة قلة التغذية والرعاية والاهتمام، ومشاعر عجز الأم إزاء طفلها الباكي جوعًا، الذي أنجبته تحت النار، لا يمكن لأحد أن يتخيلها".
في غزة، لم تعد الولادة بداية حياة، بل امتدادًا لرحلة الموت البطيء. أمٌ تحتضن رضيعها تحت قماش خيمة، وطفلٌ يولد بلا وزن ولا حليب. في هذا الركن المنسي من العالم، كل لحظة حياة هي معركة، وكل صرخة ولادة تصرخ معها الأرض: أين العالم؟
تلد الأمهات في غزة أطفالهن دون أن يعرفن إن كانوا سيكبرون، دون أن يعرفن إن كنّ سيبقين معهن. يلدن ومعهن يُولد سؤالٌ موجع: هل هذه حياة؟ أم أنها انتظارٌ لموتٍ آخر؟