غزة/البوابة 24ـ انعام عاهد فروانة
يبدأ يوم جهاد عياش في غزة بمعركة غير متكافئة... معركة البحث عن "الفكة". رجل الخمسين عامًا لا يبحث عن لقمة عيش أو دواء نادر، بل عن شيء يبدو بسيطًا: عملات معدنية صغيرة لشراء الخبز ودفع أجرة المواصلات.
"أتنقل بين خمسة محلات أحيانًا لشراء حاجات لا تتجاوز قيمتها عشرة شواكل"، يقول جهاد بعيون مرهقة، "وفي النهاية أعود إلى البيت خالي الوفاض، لأن أحدًا لا يملك فكة ليردها لي." ويضيف: "حتى السائقون أصبحوا يشترطون وجود الفكة قبل صعود السيارة."
لكن هذه ليست قصة جهاد وحده. ففي شوارع غزة، التي أنهكها الحصار والحرب، تحوّلت أزمة نقص العملات المعدنية (الفكة) إلى كابوس يومي يلاحق الجميع، من الباعة إلى ربات البيوت، ومن سائقي المركبات إلى الأطفال الذين يحلمون بشراء قطعة حلوى.
أزمة تتفاقم
في الأسواق، تبدو علامات القلق على وجوه البائعين بشكل دائم، إذ يتكرر السؤال: كيف سيتم ردّ باقي نقود الزبائن؟ أما الزبون، فيشعر وكأنه ارتكب خطأ لمجرد عدم حمله "فكة"، فتتحول لحظة الشراء إلى موقف محرج وربما يسبب توترًا أو خلافًا بسيطًا.
من جهة أخرى، يواجه الباعة صعوبات متزايدة في التعامل مع هذه الأزمة اليومية. يقول بلال أبو القمبز، وهو بائع على بسطة، إنه يتعرض لهذا الموقف عشرات المرات يوميًا.
"في كثير من الحالات أضطر لإعطاء الزبون الباقي على شكل بضاعة، وأحيانًا أدفع من جيبي لأحافظ على الزبون. لكن عندما يتكرر الموقف يومًا بعد يوم، يصبح مرهقًا نفسيًا وماديًا."
ويضيف: "أسوأ ما في الأمر هو نظرة الزبون إليك، وكأنك تتهرب من إرجاع حقه، بينما الحقيقة أن الفكة غير متوفرة أصلًا في السوق."
أزمة في خطوط المواصلات
في شارع عمر المختار، يرفع محمد عبد العال يده معتذرًا لراكب يحاول الصعود إلى الميكروباص. "آسف يا أخي، معي فقط أوراق نقدية كبيرة"، يقول الراكب، فيرد عليه محمد بنفاد صبر: "وأنا أيضًا لا أملك فكة! كل يوم نواجه نفس المشكلة."
ويؤكد عبد العال أن حتى المشاوير القصيرة أصبحت معقدة بسبب غياب الفكة، مضيفًا: "أزمة صغيرة في ظاهرها، لكنها تؤثر على الجميع. السائق والراكب ضحية."
أما السائق أحمد محمدين، فيشرح حجم الخسائر التي يتكبدها نتيجة هذه الأزمة المستمرة:
"السولار غالٍ، والدخل محدود، وكل شيكل له قيمته. حين أضطر إلى إعادة راكب لأنني لا أملك الباقي، أتكبد خسارة. حاولت الاحتفاظ بالفكة، لكنها تنفد سريعًا، ونبدأ كل يوم من جديد."
النساء في غزة لا ينجون من هذه المعاناة، بل يدفعن ثمنًا مضاعفًا، خاصة خلال تنقلهنّ لتلبية احتياجات أسرهنّ. تقول المواطنة وفاء علوان: "كثير من المشاوير المهمة أقوم بتأجيلها أو إلغائها فقط لعدم توفر الفكة. السائق يرفض نقلي، ويقول لي: إذا لم يكن معك فكة، لا أستطيع التحرك. وحتى أصحاب المحلات، حين يرونك بلا فكة، يتعاملون معك بجفاء."
أبعاد اقتصادية خطيرة
من زاوية تحليلية أعمق، يرى الخبير والمحلل الاقتصادي الدكتور ماهر الطبّاع أن أزمة الفكة في قطاع غزة تُعدّ إحدى الأزمات الحقيقية التي تُثقل كاهل المواطنين، خصوصًا في ظل استمرار الحصار الإسرائيلي وتدهور الوضع الاقتصادي.
ويُوضح أن جذور الأزمة تعود إلى شح السيولة النقدية، التي تفاقمت مؤخرًا كنتيجة مباشرة للحرب التي شنّتها إسرائيل، والتي أدت إلى منع دخول العملات – سواء الورقية أو المعدنية – إلى القطاع، ما عمّق أزمة الفكة بشكل غير مسبوق.
ويضيف: "أزمة الفكة تؤثر بشكل مباشر على حياة المواطنين. مثلًا، من يحمل خمسين شيكلًا ويريد شراء حاجة بعشرة شواكل، لن يتمكن من إتمام الشراء لعدم توفر الصرف، ما يضطره إلى التنازل عن حاجته بالكامل."
ويشير الطبّاع إلى أن جميع البنوك في قطاع غزة مغلقة حاليًا، وفي ظل منع الاحتلال إدخال حتى الحليب للأطفال والمستلزمات الطبية، فمن غير المتوقع أن يُسمح بدخول الفكة أو أي سيولة نقدية. ويؤكد أن الاحتلال "يسعى إلى تعقيد الأوضاع المعيشية وزيادة الضغط على المواطنين."
ويختتم بالقول: "الأزمات التي يعيشها قطاع غزة – من مجاعة وشح السيولة وأزمة الفكة – تُعدّ من بين الأزمات الأشد، ولا يمكن معالجتها إلا بوقف الحرب، وبتحرك دولي حقيقي وفاعل."
صورة تعكس عمق الأزمة
رغم أن أزمة الفكة تبدو تفصيلًا بسيطًا في مشهد معقد، إلا أنها تكشف عن صورة أعمق لانهيار النظام الاقتصادي في غزة، وتُجسد مدى تراجع أدوات الإدارة النقدية في ظل الحصار وانعدام السيولة، مما يجعل من أبسط تفاصيل الحياة عبئًا يوميًا جديدًا على المواطن الغزّي.