*بقلم: وليد العوض*
في الثاني عشر من آب/أغسطس 2001، توقف قلب الرفيق سليمان النجاب عن الخفقان، وفقدت فلسطين، ومعها الحركة الوطنية والتقدمية في العالم، أحد أنبل رجالها الذين حافظوا على طيب السيرة ونقاء المسيرة. برحيله الصعب، غابت شمس من شموس فلسطين التي ملأت بنورها فضاء الأرض، وغابت شجرة لوز انغرست عميقًا في تربة جيبيا الرابضة على جبال رام الله، لكنها ما زالت تزهر كل عام.في يوم رحيله قبل أربعةٍ وعشرين عامًا، ذوت شمعة أنارت لسنوات طريق الكفاح الوطني، وتركت أثرًا لا يُمحى، سواء في موقعه كواحدٍ من أبرز مؤسسي الحزب الشيوعي الفلسطيني، أو كممثل للحزب في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية لأربعة عشر عامًا.
وفي هذه الأيام، وشعبنا الفلسطيني يواجه في قطاع غزة حرب إبادة وتجويع ومحاولات تهجير متواصلة منذ 675 يومًا، ويتكثف العدوان والاستيطان ومحاولات الضم في الضفة الغربية، تمر ذكرى رحيله المؤلمة وقد خلف فراغًا كبيرًا لم يملأه أحد حتى الآن ،اليوم، نفتقد شجاعة أبو فراس، وحكمته، وفراسته، في وقت تمر فيه قضيتنا الوطنية بواحدة من أخطر مراحلها. نفتقد قدرته على إدارة الخلاف والتباين والانقسام الذي يعصف بالساحة الفلسطينية ويهدد مستقبل قضيتنا وحقوق شعبنا. نفتقد بقوة حنكته السياسية التي صقلتها التجربة، وهو الذي أمضى خيرة سنوات عمره مناضلًا عنيدًا وقائدًا بارزًا في حزب الشعب والحركة الوطنية والتقدمية، في مختلف الساحات والميادين في ذكرى رحيله المؤلم ،نستذكر القائد الكبير سليمان النجاب ونحن في أشد الحاجة إلى حضوره، إلى قدرته الجامعة، ورؤيته الثاقبة التي ميّزته، بعد أن صقلته سنوات السجن الطويلة التي لم تنل من عزيمته، بل زادته تمسّكًا بقيم العدالة والحرية والمساواة، التي تربّى عليها منذ انخراطه المبكر في ميادين الكفاح، مع مطلع خمسينيات القرن الماضي.كان مناضلًا صلبًا، ومدافعًا عن العمال والفلاحين في مواجهة كل أشكال الاستغلال، ومناضلًا وطنيًا من أجل التحرر والاستقلال. سعى بدأب لتربية رفاقه وتعزيز ثقافتهم، وأولى اهتمامًا خاصًا للعلاقة بين السياسي والمثقف الملتزم، ورأى في التكامل بينهما ضرورة يفرضها النضال السياسي والاجتماعي الفلسطيني.
كان جلّ اهتمامه نشر الوعي بين الرفاق، وتحفيزهم على قول كلمة الحق في وجه كل سلطان جائر. بهذه الروح، كان أبو فراس يغذّي الرفاق، يرفع من معنوياتهم، ويحفّزهم على الوقوف في وجه نزعات التسلّط والتفرّد، التي كانت في بداياتها، لكنها اليوم غدت مرضًا عصيًّا يتطلب علاجًا لضمان التقدم والاستمرار على ذات الطريق. نستذكره اليوم، ونحن في أمسّ الحاجة إلى قدرته الخلّاقة في تعزيز دور منظمة التحرير الفلسطينية، وتعزيز إسهامات الحزب فيها على مختلف الصعد، وتكريس مكانته فيها حزبًا يتمتّع برؤية صادقة، واضحة، بعيدة عن الانفعال والارتجال، التي باتت تُوحي أحيانًا بفقدان البوصلة — وهي لا تليق بحزبٍ رحل قادته وتركوا إرثًا من الصدق والوضوح في أحلك المنعطفات.
تمرّ ذكرى رحيل القائد الوطني الكبير سليمان النجاب، في وقتٍ تزداد فيه الحاجة وطنياً إلى حكمته وخبرته الطويلة في رسم أسس الحوار الوطني، واقتحام ميادينه بوضوح وجرأة، للخروج من الأزمة العميقة التي تعصف بالنظام السياسي الفلسطيني، والتي تهدد بتقويض ما تبقى من تماسكه حيث نعيش اليوم واقعاً مأزوماً، تحكمه حالة من التمزق والانقسام والارتهان لأجندات ثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن قضيتنا وشعبنا هما الخاسر الأكبر فيها. وقد ازداد المشهد تعقيداً حيث تصدّر الأغرار والمراهقين وقادة الصدفة، الذين يفتقرون إلى الحكمة والجرأة، وانزلق بعضهم إلى مستنقع الفساد والإفساد، وباتوا يتحكمون بكل شيء، بلا وازع أو رادع.
نفتقدك يا أبا فراس... بعد أن افتقدت الحركة الوطنية أعمدتها الأساسية، أولئك الذين كتبوا تاريخها وتاريخ منظمة التحرير الفلسطينية بأحرف من دم ونور.
بفضل كفاحكم، غدت قضية شعبنا من أبرز قضايا العصر، ومع رحيلكم باتت هذه القضية تهتز، بل صارت، بكل أسف، عرضة للانهيار في وضع لا يُحسد عليه أحد.
واليوم، ونحن في خضم المقتلة، ورقابنا تحت المقصلة، نذكركم ونفتقدكم أكثر من أي وقت مضى، وندرك كم أن طريقنا لا يزال طويلاً وشائكاً، لانتزاع شعبنا من فم الوحش، والدفاع عن حقه في الحرية والاستقلال. في ذكرى رحيلك، نقول لك والحزن يعتصر قلوبنا: لم ترحل... ما زلت بيننا، مشعلاً يضيء لنا درب الكفاح، نحو الأهداف والأماني التي نذرتَ حياتك لأجلها.
*11 آب 2025 – غزة*
