غزة بين النزوح القسري وصمت العالم

علي.jpg
علي.jpg

بقلم المحامي علي ابوحبله

تتردد على ألسنة آلاف النازحين في غزة عبارة تختصر المأساة كلها: "وين ننزح ما في مصاري". إنها ليست مجرد كلمات عابرة بل شهادة دامغة على واقع إنساني بالغ القسوة، واقع يضع سكان القطاع بين نار الحرب وضيق الحصار وفقدان الملاذ الآمن. منذ اندلاع الحرب الأخيرة شهدت غزة أكبر موجات نزوح داخلي في تاريخها الحديث، حيث اضطرت مئات آلاف العائلات إلى ترك بيوتها أكثر من مرة. لكن النزوح لم يعد يعني البحث عن مكان آمن بل أصبح معضلة وجودية. الملاجئ مكتظة إلى حد يفوق طاقتها والمواد الغذائية والدوائية شحيحة والقدرة الاقتصادية للغالبية العظمى من الأسر منهارة. أمام هذه الصورة يتحول النزوح إلى رحلة بلا وجهة ويصبح البقاء في العراء خياراً مفروضاً. ما يجري لا يمكن النظر إليه باعتباره نتيجة عارضة للحرب، بل يندرج في سياق سياسة إسرائيلية ممنهجة تهدف إلى إنهاك السكان ودفعهم قسراً إلى ترك أرضهم. التدمير واسع النطاق للبنية التحتية، استهداف المنازل، وحرمان المدنيين من مقومات الحياة كلها أدوات متعمدة لخلق بيئة طاردة. إنها محاولة لإعادة إنتاج النكبة بصيغة جديدة تقوم على النقل القسري الصامت. القانون الدولي الإنساني واضح في هذا السياق. اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 تنص صراحة في مادتها التاسعة والأربعين على حظر النقل الجبري الجماعي أو الفردي للأشخاص المحميين من الأراضي المحتلة تحت أي ذريعة. ونظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية يعتبر الترحيل القسري جريمة ضد الإنسانية إذا ارتكب في إطار هجوم واسع النطاق أو منهجي ضد السكان المدنيين. كما يكفل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الحق في السكن والأمن وعدم التعرض للنفي أو الطرد التعسفي. هذه النصوص جميعها تؤكد أن ما يتعرض له الفلسطينيون في غزة يرقى إلى مستوى الجريمة الدولية ويستدعي المساءلة والمحاسبة. لكن المجتمع الدولي يقف عاجزاً. الأمم المتحدة تكتفي بالتحذيرات بينما تفشل في فرض ممرات آمنة. القوى الكبرى تصدر بيانات القلق لكنها تمتنع عن أي خطوات عملية. المؤسسات الإنسانية مقيدة بالحصار وفقدان التمويل. الصمت الدولي لا يبرر فقط استمرار المعاناة بل يرقى إلى تواطؤ بالصمت على جريمة التهجير القسري. اليوم تقف غزة على حافة الكارثة، ولا مجال أمام المجتمع الدولي لمزيد من التسويف. إن اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة في السابع عشر من هذا الشهر يجب أن يكون محطة مفصلية، تخرج عنه قرارات نافذة وملزمة لإسرائيل بوقف الحرب ووقف سياسات التهجير القسري فوراً، وإلا فإن فقدان الثقة بالمنظومة الدولية سيتحول إلى قناعة راسخة لدى شعوب العالم بأن القانون الدولي مجرد واجهة لتبرير موازين القوى. إن غزة لا تسأل العالم سوى أن يتحمل مسؤوليته، وأن يترجم نصوص الاتفاقيات والمواثيق إلى أفعال تردع الاحتلال وتعيد الاعتبار للحق الفلسطيني في الحياة والكرامة

البوابة 24