غزة/ البوابة 24- جنين أبو جراد:
في ميدان تغطيه رائحة البارود وتتصدره أصوات الانفجارات، تتحول الكاميرا إلى درع هشّ لا يكفي لحماية صاحبتها من قناصة الاحتلال أو صواريخه. ومع كل يوم يمرّ في الحرب، يزداد حضور الصحفيات الفلسطينيات في الخطوط الأمامية، حاملات قصص الضحايا ومواجع الناس، لكنهن في الوقت نفسه يتحولن إلى أهداف مباشرة، في معركة لا تعترف بالحياد ولا تفرّق بين مدني وصحفي.
شهادة سلمى القدومي: بين الإصابة والإصرار
الصحفية سلمى القدومي (35 عامًا) تجسد هذه الحقيقة القاسية. فقد هجّرت مرات عدة من بيتها، لتعيش حياة نزوح متكررة، قبل أن تُصاب في 13 أغسطس/آب 2024 أثناء تغطيتها الإعلامية في خان يونس، حين استهدفها الاحتلال بشكل مباشر، فأصيبت بجروح بالغة بينما ارتقى زميلها إبراهيم محارب شهيدًا إلى جوارها.
تقول القدومي: "إصابتي حدّت من قدرتي على الحركة والعمل، لكنني لم أستطع التوقف. شعرت أن عليّ مسؤولية أكبر لإيصال صوت الضحايا، خاصة أن كثيرين لا يملكون وسيلة للحديث إلى العالم".
رغم غياب العلاج المناسب وصعوبة الحركة، اختارت سلمى العودة إلى الميدان. لم يكن قرارها مجرّد تحدٍّ شخصي للإصابة، بل التزامًا أخلاقيًا تجاه رسالتها المهنية، وإصرارًا على أن تُسمع رواية الفلسطينيين في ظل محاولات التعتيم المستمرة. وتصف تجربتها بأنها وضعتها أمام خيارين قاسيين: "إما أن أصمت حفاظًا على حياتي، أو أواصل نقل الحقيقة مهما كان الثمن".
أسماء الوادية: وجع مزدوج بين الميدان والعائلة
على الطرف الآخر، تعيش الصحفية أسماء الوادية، المذيعة في تلفزيون فلسطين، وجعًا مركّبًا يجمع بين المهنة والأمومة. تقول: "إنني أودّع أطفالي يوميًا وأنا خارجة للعمل، دون أن أعرف إن كنت سأعود وأراهم مجددًا".
تؤكد الوادية أن الاستهداف الإسرائيلي للصحفيات ليس عشوائيًا، بل مقصودًا، فظهور الصحفية في المشهد الإعلامي يحمل بعدًا إنسانيًا مضاعفًا: فهي شاهدة على المأساة وناجية منها في الوقت نفسه. وتضيف: "هذا الحضور يجعلنا أكثر تأثيرًا، ولذلك نُستهدف".
وتوضح أن الضغط النفسي يتضاعف حين تكون على الهواء مباشرة. "أحاول أن أخفي خوفي عن المشاهدين، بينما يسيطر عليّ القلق على عائلتي". بالنسبة لها، ليس الخطر الجسدي وحده ما يرهق الصحفيات، بل الخوف اليومي من أن يُتم أطفالهُنّ فجأة، أو أن يجدوا خبر استشهادهن على شاشة التلفزيون.
ترى الوادية أن هذا البعد النفسي لا يقل قسوة عن الخطر الجسدي: "الجروح قد تلتئم، لكن الخوف على الأطفال وذكريات النزوح والوداع اليومي تترك ندوبًا يصعب محوها حتى بعد انتهاء العدوان".
هذا البعد الإنساني، كما تقول، هو ما يدركه الاحتلال جيدًا، فيحاول استهداف الصحفيات لحرمان المجتمع من الصورة الأصدق للحرب: صورة امرأة تحمل الكاميرا بيد، وتتشبث بسلامة أطفالها باليد الأخرى.
دور نقابة الصحفيين: التوثيق والملاحقة
في مواجهة هذا الواقع، كان لنقابة الصحفيين الفلسطينيين دور بارز في توثيق الانتهاكات والمطالبة بالحماية الدولية. يؤكد عاهد فروانة، أمين سر النقابة، أن استهداف الصحفيات بشكل خاص يعود لإدراك الاحتلال لقوة حضورهن في السردية الإعلامية: "الصحفية الفلسطينية تنقل المأساة كأم ونازحة وزوجة إلى جانب كونها إعلامية، وهذا ما يجعل صوتها أكثر تأثيرًا ويجعلها هدفًا مباشرًا".
ويشير فروانة إلى أن النقابة تتابع جرائم الاحتلال أمام الجهات الدولية، حيث رُفعت قضايا إلى المحكمة الجنائية الدولية منذ اغتيال شيرين أبو عاقلة وياسر مرتجى، مرورًا بمئات الصحفيين الذين قُتلوا أو أصيبوا خلال العدوان المستمر.
ويضيف: "نحن لا نملك ترف الصمت. رفعنا ملفات موثقة للهيئات الدولية، ونطالب بحماية حقيقية للصحفيين الفلسطينيين، فالقوانين الدولية واضحة لكن الإرادة السياسية غائبة".
إلى جانب التوثيق، وجّهت النقابة دعوات متكررة إلى المؤسسات الدولية والعربية لتحمل مسؤولياتها القانونية والأخلاقية في حماية الصحفيين. ويشدد فروانة على أن التضامن لا يكفي، بل يجب أن يُترجم إلى آليات حماية ومحاسبة: "كل شهيد من الصحفيين وصحفياتنا هو وصمة عار على جبين المجتمع الدولي".
وسط هذا المشهد القاتم، تبرز الصحفيات الفلسطينيات كجزء من رواية أوسع عن الشعب الذي يعيش حربًا مفتوحة. فالمرأة الصحفية لا تحمل الكاميرا فقط، بل تحمل على كتفيها تجربة النزوح وفقدان البيت والأحبة، لتتحول هي نفسها إلى جزء من القصة التي ترويها.
وبينما يسعى الاحتلال إلى تغييب هذه الصورة عبر الاستهداف المباشر، تبقى الكاميرا سلاحًا في مواجهة الرواية الرسمية، وتبقى أصوات الصحفيات شاهدة على جريمة جماعية لا يريد العالم أن يراها.
في النهاية، تبدو حكايات سلمى القدومي وأسماء الوادية مجرد نماذج لقصص كثيرة لصحفيات فلسطينيات اخترن أن يكنّ شاهدة على الألم، حتى لو كان الثمن حياتهن. يختصر المشهد صورة امرأة تودّع أطفالها على عجل، تلتقط كاميرتها، وتتجه إلى الميدان، مدركة أنها قد لا تعود. لكنها رغم ذلك تمضي، لأن الكلمة الحرة والصورة الصادقة، في فلسطين، لا تقلّ وزنًا عن الدماء التي تُسفك كل يوم.