زكريا بكر.. صياد يورث البحر صبره وأحلامه رغم الحرب

صورة توضيحية
صورة توضيحية

غزة/ البوابة 24- محمد لؤي الغول

زكريا بكر، خمسينيّ بملامح بحرٍ تعب من الملاحقة والحصار، يقف اليوم شاهداً على انهيار مهنة ورثها عن آبائه وأجداده. خبر الصيد صغيرًا، وعايش تفاصيل البحر لعقود، قبل أن يصبح رئيس النقابة العامة للصيادين والعاملين بالإنتاج البحري. صوته يحمل ثِقَلَ التجربة ووجع البحر، فهو لا يتحدث عن أرقام وحوادث فحسب، بل عن حياة كاملة تُسحق أمام عينيه.

"منذ أن كان عمري 17 عامًا، وجدت نفسي مضطرًا للنزول إلى البحر بدل مقاعد الدراسة"، يقول زكريا بكر، رئيس النقابة العامة للصيادين والعاملين بالإنتاج البحري، وهو يستعيد بداياته مع مهنة الصيد التي شكّلت له ولأسرته مصدر بقاء منذ الانتفاضة الأولى عام 1988. اعتقالات أشقائه واحتجاز تصاريحهم من قبل الاحتلال جعلت منه وأخيه الكبير العائلين الوحيدين للأسرة عبر البحر.

لكن البحر الذي كان يعني الحياة والرزق، تحوّل اليوم إلى "حقل ألغام"، على حد وصف بكر: "منذ السابع من أكتوبر 2023، لم يعد البحر مفتوحًا للصيادين. الاحتلال دمّر كل المراكب والمراسي والميناء، ولم يبقَ سوى نحو 400 صياد يعملون بوسائل بدائية جدًا؛ حسكات مجداف، ألواح فلين، أبواب ثلاجات، وحتى إطارات مطاطية".

بكر يشير إلى أن "من أصل 5000 صياد كانوا يعملون قبل الحرب، لم يبقَ سوى أقل من 2% يمارسون المهنة بشكل محدود وخطير، في مسافة لا تتجاوز 800 متر داخل البحر. أي محاولة لتجاوز هذه المسافة تُقابل بالقصف المباشر من الزوارق الحربية الإسرائيلية". ويضيف: "الصيد اليوم أصبح مهنة مطاردة وموت، كل صياد يودع عائلته قبل النزول للبحر لأنه يعلم أن الداخل مفقود والخارج مولود".

الأضرار لا تقتصر على حياة الصيادين فحسب، بل طالت البنية التحتية كاملة. "قبل حرب الإبادة، كان قطاع الصيد يضم أكثر من 1800 مركب، منها 100 لنش كبير، وخمس مراسٍ إضافة إلى ميناء غزة الرئيسي. اليوم، 95% من هذا القطاع دُمّر بالكامل. المراسي اختفت، الميناء شُطر نصفين، وغرف الصيادين وسوق الأسماك ومصانع الثلج وورش تصنيع السفن والحدادة، جميعها تحولت إلى ركام".

الحصار والتدمير انعكسا مباشرة على الأسعار. بكر يوضح: "في ظل غياب اللحوم الحمراء والبيضاء عن غزة، ارتفع الطلب على الأسماك. لكن الكميات لا تغطي سوى 2% من حاجة السوق، ما جعل أسعار الكيلو تقفز من 20 شيكل قبل الحرب إلى 300 أو 400 شيكل اليوم". ويضيف: "الأسماك باتت طعامًا للأغنياء فقط، بينما عائلات الصيادين نفسها بالكاد تحصل على قوتها اليومي".

ويستذكر بكر صور الميناء قبل أن يُقصف: "كانت المراكب الكبيرة تنير شاطئ غزة ليلاً، وكانت غرف الصيادين تضج بالضحك والقصص والمثل الشعبية الخاصة بالبحر. اليوم لم يعد هناك صوت سوى للدمار، ولم يبقَ من تلك الذكريات سوى رائحة الرماد والركام". بالنسبة له، فقدان البحر لا يعني فقدان مهنة فحسب، بل فقدان موروث حضاري وثقافي عريق تناقلته أجيال الصيادين.

أما الألم الأكبر فيراه بكر في عيون أبناء الصيادين: "هؤلاء الأطفال الذين كانوا يحلمون بأن يرثوا المهنة عن آبائهم، صاروا اليوم يرثون الخوف والحرمان. بعضهم يعيش في خيام جنوب القطاع بعد أن فقدوا منازلهم، وآخرون فقدوا آباءهم في البحر. الجيل الجديد يُحرم من البحر قبل أن يعرفه".

المأساة الإنسانية تتجاوز البحر. "أكثر من 215 صيادًا استشهدوا منذ بداية الحرب، بينهم نحو 65 أثناء محاولتهم الصيد. كثير من الصيادين فقدوا بيوتهم ونزحوا جنوبًا ليعيشوا في خيام لعام كامل، وهم الآن مهددون مجددًا بالرحيل. حتى ميناء غزة لم يعد ميناء، بل تحول إلى مركز إيواء ضخم يضم عشرات آلاف الخيام، التي تتعرض بدورها للقصف والتهديد بالتهجير".

زكريا بكر يلخص المشهد بمرارة: "البحر الذي كان يمثل لنا الحياة والروح والموروث الحضاري والثقافي بات اليوم ساحة موت. لم يعد التوقف عن الصيد خيارًا، بل صار إجباريًا. غزة فقدت بحرها، وصيادوها فقدوا حياتهم واستقرارهم".

ورغم كل ما فقده، لا يزال البحر حاضرًا في وجدان الغزيين كرمز عنيد للبقاء. "البحر ليس مجرد مهنة أو مصدر رزق، هو نافذتنا على العالم، هو الهواء الذي نتنفسه"، يقول بكر. "قد يمنعنا الاحتلال من دخوله، لكنه لا يستطيع أن يمحو صورته من ذاكرتنا، ولا أن يطفئ الأمل الذي يربطنا بموجه الأزرق، مهما طال الحصار والدمار".

البوابة 24