غزة/ البوابة 24- صفاء كمال:
في غزة، مرّ أكتوبر مجددًا كجرس إنذارٍ مؤلم، لم يحمل الشريط الوردي معه رسائل الأمل المعتادة، بل عاد ليذكّر المنهكين بين الركام بأن الاحتلال لا يغتال الأجساد بالرصاص وحده، بل يستهدف فكرة "الحياة" نفسها.
في هذا الشهر الذي يفترض أن يُكرَّس للفحص المبكر والتوعية بسرطان الثدي، تمكث النساء في غزة بين الخيام والمستشفيات المهدمة، يطاردن بقايا علاج، ويحملن أجسادًا أنهكها المرض والحرب معًا.
منذ لحظة اكتشافها للمرض، وجدت عائشة خليل أبو سالم نفسها في طريقٍ طويلٍ من المعاناة. كانت في التاسعة والخمسين من عمرها حين شعرت بكتلة غريبة في صدرها. ذهبت مع صديقتها إلى مستشفى الهلال للفحص، ليأتيها التشخيص في الخامس والعشرين من أيلول/سبتمبر 2023م صادمًا: "الكتلة خبيثة".
نعم قبل اندلاع الحرب بأيامٍ فقط، خضعت لعملية جراحية لاستئصال الورم، ثم بدأت علاجًا كيميائيًا في المستشفى التركي المختص بالسرطان، حيث تلقت جرعتين فقط!
كانت الحرب أخبث من الكتلة نفسها. النزوح والخوف والجوع والعيش بين ركام الحياة الماضية بغزة، لم تترك لها فرصةً للتفكير بغير "النجاة". العلاج توقف فترةً ثم عادت لتستكمله في المستشفى التركي (الوحيد في غزة، المخصص لعلاج السرطان)، إلا أن الاحتلال كان له رأيٌ مختلف.
"لم ينجُ شيء"!
تقول عائشة: "في مارس/ آذار 2025م، انهمرت القذائف فوق رأس المشفى. لم ينجُ شيء لا غرف العلاج، ولا أجهزة الأشعة، ولا حتى الأمل الذي كان يسكن قلوب المرضى". توقّف علاج عائشة فجأة، لتبدأ رحلة بحثٍ جديدة عن مكانٍ يعيد إليها حقها في الحياة.
تم تحويلها إلى مستشفى ناصر، جنوبي القطاع، وهناك ازدادت معاناتها. كانت الجرعات التي تلقتها "أكبر من المطلوبة، وغير مناسبة لحالتها"، بسبب غياب السجلات الطبية الدقيقة ونقص الأجهزة اللازمة. الأطباء نصحوها بالعلاج الإشعاعي الذري، لكن هذا النوع من العلاج غير متوفر إطلاقًا في غزة. حتى الأدوية التي تحتاجها تأتي متقطعة، بالكاد تجدها بين الدمار والحصار.
اليوم، تعيش عائشة في خيمة نزوح بمنطقة مواصي خان يونس. وحيدة، تتنقل بصعوبة لتأمين العلاج والطعام. فقد أصيبت بخشونة في ركبتيها، وتسقط أحيانًا من التعب بعد جرعات العلاج. الطعام المتوازن ترفٌ لم يعد ممكنًا، ما يزيد ضعفها الجسدي. لا أحد يقدم لها دعمًا نفسيًا، ولا أحد يسمعها وهي تهمس برغبة واحدة: أن تسافر لتكمل علاجها، أن تتعافى وتعيش بسلام.
"فقط أريد حقي"
قصة لمياء عمر لا تقل وجعًا. قبل المرض، كانت تزن ثلاثةً وسبعون كيلوغرامًا، أما الآن، فلا يتجاوز وزنها الخمسين. تقول بصوتٍ متعب: "لا دواء، لا أجهزة، لا مستشفيات تملك مقومات العلاج.. الغذاء المتاح سيئ، وإن وُجد لا أستطيع شراءه". تعتمد على المعلبات والعدس لتقاوم الجوع.
خيمتها الجديدة قريبة من محطة توليد السولار، حيث يُحرق البلاستيك في محيطها فيتصاعد دخان كثيف يؤذي رئتيها ويديها. تضطر إلى ارتداء كمامة لتخفيف الأثر، لكنها تعلم أن الهواء الذي تتنفسه ملوث. وهي، فوق كل ذلك، مسؤولة عن طفلتها المصابة بمتلازمة داون، التي تعاني أمراضًا مزمنة، مما يزيد العبء جسديًا ونفسيًا.
تروي بصوتٍ يغلبه الانكسار: "حالتي تدهورت مع بدء الحرب، أنا لا أملك تكاليف المواصلات اللازمة للوصول إلى العلاج. وحتى حين أصل، يُقال لي إن الدواء غير متوفر. إنها المرة الثانية التي أُصاب فيها بسرطان الثدي، لذا فإن التدهور أسرع. حاولت مرارًا الخروج للعلاج في الخارج، لكن جميع الطلبات قوبلت بالرفض".
وتضيف: "أنا فقط أريد حقي في علاجٍ مناسب.. هذا كل ما أتمناه".
عيون معلقة بالمعابر!
كان المستشفى التركي بمدينة غزة رمزًا للأمل، يقدم خدمات العلاج الكيميائي والإشعاعي لآلاف المرضى سنويًا. بُني بجهود وتبرعات خارجية، لكن في ذلك اليوم من آذار، انهار الحلم على رؤوس من كانوا يتشبثون بالحياة بين جدرانه. بعده، كان المستشفى الأوروبي في خان يونس آخر المراكز القليلة المتبقية، لكنه هو الآخر تضرر وتوقفت فيه العمليات، تاركًا المرضى بلا مكان يلوذون إليه.
وتشير تقارير منظمة الصحة العالمية إلى وجود نحو عشرة آلاف حالة سرطان في غزة خلال العامين الماضيين، مع أكثر من ألفي إصابة جديدة تُشخّص سنويًا، بينهم أطفال. لكن التشخيص لا يكفي وحده. فالأجهزة معطلة، والأدوية شحيحة، والتيار الكهربائي مقطوع، والوقود نادر. ومع كل وقتٍ يمضي، يضيق الأمل أكثر.
النتيجة: آلاف المرضى بلا علاج، ينتظرون تحويلات إلى الخارج، لكن المعابر مغلقة أو تُدار بإجراءات تعسفية. بعضهم رحل قبل أن يحصل على إذن مرور، وآخرون ما زالوا يقاومون الألم بصمت، بين خيمةٍ وأخرى، بلا دواء ولا رعاية.
أما الحياة اليومية لهؤلاء فليست أقل قسوة من المرض نفسه. الخيام الممزقة، الغبار والدخان، الهواء الملوث، الخوف من القصف، العزلة، فقدان الأصدقاء، والألم المستمر، كل ذلك يجعل من الصبر معجزة يومية.
"تجريد من الكرامة الإنسانية"
بدورها، تقول الأخصائية النفسية عبير حسين، التي تابعت حالات كثيرة مشابهة: "النساء المصابات بسرطان الثدي في غزة يعشن تحت ضغط نفسي ساحق.. الخوف من توقف العلاج، الألم المزمن، القلق من المستقبل، كلها تصنع حالة صدمة مستمرة. كل زيارة علاجية، إن وُجدت، تصطحب فيها المرأة حقيبةً من المخاوف قبل أن تحمل دواءها".
تشير عبير إلى أن أكثر من 60% من هؤلاء النساء يعانين من احتياجات نفسية غير ملباة، تبدأ من غياب الدعم العاطفي وتنتهي بانعدام الخصوصية. وتضيف بأسى: "حين تُضطر امرأة مصابة بالسرطان أن تزحف في طرق النزوح أو تنام في خيمة لا تقي من الحر أو البرد، فنحن لا نتحدث عن معاناة طبية فقط، بل عن تجريد كامل من الكرامة الإنسانية. النفس التي تُهمل لا تقوى على مقاومة المرض".
قصتا عائشة ولمياء ليستا إلا نموذجين من قصص آلاف النساء اللواتي يواجهن المرض بصمت. فكل مستشفى يُدمَّر يعني فرصةً أقل للتشخيص والعلاج، وحياةً أقرب إلى نهايتها.
إن أكتوبر في غزة لم يعد شهر التوعية بسرطان الثدي، بل شهر اختبارٍ قاسٍ لواقعٍ صحيٍّ مدمّر، شهرٌ تتذكّر فيه النساء ما فُقد من خدمات وأمان، وتُدرك فيه أن الشفاء أصبح أمنية مؤجلة.