على حافة الانهيار.. نساءٌ أنهكتهن مهام "النزوح" تحت سقف خيمة!

غزة/ البوابة 24- صفاء كمال:

في أحد أركان مخيم المقوسي للنازحين غربي مدينة غزة، تجلس وسام نبهان (43 عامًا) على حجرٍ داخل خيمتها، تمسك بيدها صابونة صغيرة وتدعك قطعة ملابس فوق وعاء غسيل بدائي، بينما تسأل جارتها: "في مي؟". سؤالٌ بسيط، لكنه يختصر معركةً يومية تخوضها النساء هنا مع الشقاء.

قبل الحرب، كانت وسام تنهي أعمالها المنزلية في غضون ساعتين، بمساعدة أدواتٍ كهربائية كانت تيسر الحياة اليومية. أما اليوم، فالساعتان بالكاد تكفيان لغسل الملابس يدويًا. تضغط بيديها لساعات طويلة وتقول: "أشعر أن شرايين يديّ ستنفجر من شدة الدعك." بعد الغسيل، تبدأ مهمة إعداد الطعام، التي تحوّلت إلى تحدٍّ جديد. تشعل النار على الأرض، تجلس لساعات في وضعيات خاطئة، والنتيجة آلامٌ حادة في الظهر والمفاصل.

تصف وسام يومها بأنه حلقة لا تنتهي من المهام الجسدية: ساعتان للغسيل، ساعتان للطهي، ساعة لجلي الصحون، ثم البحث عن الماء ورفعه من أول المخيم إلى خيمتها، لتستحم أو تنظف المكان، قبل أن تصرف مياه الحمام خارج الخيمة بنفسها.
"الجلوس الطويل، رفع الجالونات، النار، الغسيل.. كل هذا تراكم على ظهري، لا أستطيع النوم من شدة الألم" تقول بحرقة.

الطبيب الذي زارته أكد أن حالتها ناتجة عن الروتين الجسدي المرهق، وطلب منها الخضوع لجلسات علاج طبيعي، لكن المكان الوحيد المتاح كان خيمة بفرشة مهترئة. تضيف: "مش ممكن أرتاح، أنا أم لثلاثة أطفال، وزوجي بالكاد أراه، وحتى لما يشوفني بيقول إني بشتكي كثير".

الصحة الجسدية في المخيم ليست أولوية أحد، والروتين المنزلي بات العدوّ الصامت لأجساد النساء، يُنهكها ببطء حتى دون أن يلتفت إلى وجعهن أحد.

غضبٌ يختلط بالحسرة!

قصة وسام ليست استثناءً، فـآية إسماعيل (33 عامًا)، أرملة وأم لأربعة أطفال، تقضي أربع ساعات يوميًا أمام فرن الطين لإعداد الخبز في المخيم. تجلس على كرسي متهالك، محاطة بدخان أسود يملأ الجوّ. "الدخان يخنق أنفاسي، وعيوني تحرقني دائمًا"، تقول وهي تمسح عرقها بكمّها.

مع الوقت، بدأت تظهر على بشرتها علامات حساسية مزمنة، وازدادت حرقة عينيها حتى صارت بالكاد تبصر. زارت طبيب عيون فشخّص حالتها بحساسية شديدة، وحذّرها من أن استمرارها في هذا العمل قد يؤدي إلى تدهور بصرها. لكنها ترد بابتسامة حزينة: "ما في غيري.. من يعيل أولادي؟".
لم يتوقف الضرر عند بشرتها أو عينيها، بل امتد إلى صداعٍ دائم، وإرهاقٍ متكرر، وشعورٍ عام بالإعياء. ومع غياب البدائل، تواصل عملها وسط الخطر، تحمل مسؤولياتٍ تتجاوز قدرة جسدها بكثير.

أما الجدة فاطمة ياسين، التي تجاوزت الثامنة والخمسين من عمرها، وتُعيل خمسة أحفاد أيتام، فتبدأ نهارها برحلةٍ شاقة لجلب الماء. تحمل كل يوم ما بين ستة وعشرة جالونات، تستخدمها للغسيل، والاستحمام، والتنظيف. تعاني من هشاشة في العظام، لكنها تبتسم بمرارة وتقول: "آخر النهار، ظهري بيكون مش قادر يشيلني".

لم تعد تستطيع النوم على جانبها الأيمن من شدة ألم الكتف، والفرشة التي تنام عليها ممزقة لا تقدم أي دعم لجسدها المنهك. في أحد الأيام، سقطت أرضًا من شدة الألم. حين ذهبت إلى الطبيب، طلب منها تصوير رنين مغناطيسي، لكنها لم تحصل على موعد بسبب الاكتظاظ الناتج عن الحرب. "بيقولوا أوجاعي مش طارئة، الأولوية للمصابين"، تزيد بصوتٍ يختلط فيه الغضب بالحسرة.

انهيار منظومة الرعاية الصحية

تتكرر هذه القصص كل يوم، في كل خيمة. آلاف النساء في غزة يجدن أنفسهن محاصرات بين أعباءٍ لا تنتهي، وجسدٍ لم يعد يحتمل.
تحوّلت المهام اليومية من روتين بسيط إلى مصدر دائم للضرر الجسدي والنفسي: الجلوس الطويل في وضعيات غير سليمة، حمل الأوزان الثقيلة، الطهي على النار، واستنشاق الدخان، كلها عوامل تترك آثارًا متراكمة تبدأ بآلام العضلات والمفاصل، وتنتهي بمضاعفاتٍ مزمنة كالأمراض التنفسية، وهشاشة العظام، وتلف الأعصاب، وانزلاق الغضاريف.

تقارير الأمم المتحدة وهيئات إنسانية عدة تشير إلى أن النساء في غزة يتعرضن لانهيارٍ في منظومة الرعاية الصحية والمعيشية. فقد دُمّر أو تعطّل84٪ من المرافق الصحية، ما يجعل أي ألمٍ غير مرتبط مباشرة بالحرب، مثل آلام الظهر أو هشاشة العظام، يُعدّ "غير مستعجل"، ويُترك دون علاج.

خسائر كارثية!

وزارة الصحة في قطاع غزة أعلنت هي الأخرى عن توقفٍ كامل لخدمات التصوير الطبي التشخيصي في المستشفيات والمراكز الصحية، بسبب التدمير المتعمّد للبنية التحتية الطبية على مدار خمسة عشر شهرًا. وذكر بيان صادر عنها أن أربعة أجهزة رنين مغناطيسي وأربعة أجهزة تصوير مقطعي دُمّرت بالكامل، إلى جانب 33 جهاز أشعة متحرك وثابت، بفعل الاستهداف الإسرائيلي المباشر.
تقول الوزارة "إن هذه الخسائر الكارثية حرمت مئات المرضى من التشخيص الدقيق، خاصة في الحالات الطارئة والحرجة، مما يهدد حياة الكثيرين". ومع غياب أجهزة التصوير، تواجه الكوادر الطبية صعوباتٍ هائلة في إجراء العمليات أو متابعة الحالات المزمنة، مما يعطل الجهود الإنسانية لإنقاذ الأرواح.

ووصفت الوزارة هذا الاستهداف بأنه انتهاك صارخ للقانون الدولي الإنساني، وطالبت المجتمع الدولي بالتحرك الفوري لإعادة تأهيل القطاع الصحي المنهار.

لكن بينما تُرفع البيانات وتُكتب التقارير، تبقى وسام وآية والجدة العجوز فاطمة وجموع النساء في غزة، وحدهن، في مواجهة التفاصيل اليومية المرهقة: دلو ماء يُسحب، نار تُشعل، ظهرٌ ينحني، وليلٌ بلا راحة.

إن هذا الضغط اليومي، وإن بدا "عاديًا"، يفتك بأجساد النساء ببطء. لا أحد يراهنّ وهنّ ينحنين على الغسيل أو يرفعن الماء، لا أحد يسمع أنين الظهر المتعب أو المفاصل التي تصرخ بصمت.
النساء هنا لا يطلبن إعفاءً من المهام، بل فقط فرصةً للقيام بها دون أن يُستهلكن جسديًا بالكامل.
لكن الواقع يصرّ على استنزافهن في كل حركة.. في كل غسلة.. في كل نارٍ تُشعل لتبقي الحياة مستمرة تحت الخيام.

البوابة 24