محامون أُغلقت حساباتهم البنكية.. المدافعون عن القانون أول ضحايا خرقِهِ بغزة!

اغلاق الحسابات البنكية غزة
اغلاق الحسابات البنكية غزة

غزة/ البوابة 24- محمد أبو دون:

تحت خيمة صغيرة في مخيم النصيرات، وسط قطاع غزة، يجلس المحامي أنيس أبو شرخ (38 عامًا) محاطًا بأفراد عائلته الستة، بعد أن اضطروا للنزوح من مدينة غزة قبل نحو شهر، حين اقتربت العمليات العسكرية الإسرائيلية من حيّهم.

في تلك المساحة الضيقة التي تحولت إلى ملاذٍ من الرماد، يواجه أنيس كل يوم معركة أخرى لا تقل قسوة عن الحرب نفسها؛ معركة توفير احتياجات أسرته. ليس لأن المال غير موجود، بل لأن حسابه في "بنك فلسطين" أُغلق فجأة، فبات عاجزًا عن الوصول إلى مدخراته التي جمعها على مدار سنوات عمله الطويلة.

يقول أنيس بصوتٍ يغلب عليه اليأس: "تواصلت أكثر من مرة مع موظفي البنك لإعادة فتح الحساب دون جدوى، فإغلاقه تركني أنا وعائلتي بلا معيل، وسط حاجتنا اليومية للطعام ومستلزمات الحياة".

وأضاف: "نحو 800 محامٍ من غزة كانوا ضحية إجراءات بنك فلسطين وسلطة النقد في رام الله، حُرموا من استخدام حساباتهم البنكية منذ بداية سبتمبر دون أي إنذار مسبق أو إشعار".

يتذكر أنيس الردود التي تلقاها من موظفي البنك حين سأل عن السبب، فيقول بمرارة: "قالوا إن المشكلة بسبب تحديث البيانات أو تجاوز حد الاستخدام العادل"، مستدركًا: "لكنها حجج واهية، لأن الإغلاق شمل المحامين فقط دون غيرهم".
ثم يضيف بنبرة احتجاج: "الإجراء لم يمس أموالنا فحسب، بل عطّل حياتنا اليومية وألحق بنا أضراراً مباشرة في ظل هذه الظروف القاسية".

في أواخر أغسطس الماضي، فوجئ نحو 800 محامٍ من قطاع غزة بإغلاق حساباتهم البنكية في بنك فلسطين دون أي إشعار أو تحذير مسبق، على خلاف ما تنص عليه القوانين الفلسطينية.

وأصدرت نقابة المحامين الفلسطينيين في غزة حينها بيانًا شديد اللهجة، استنكرت فيه الخطوة التي وصفتها بـ"الخطيرة وغير المبررة"، عادةً أنها "تهدد حياة الأسر في ظل العدوان المستمر على القطاع".

ورغم محاولات معدّ التقرير المتكررة للتواصل مع إدارة بنك فلسطين للحصول على توضيحات، إلا أن الردّ الوحيد الذي وصل كان مختصرًا وجافًا، من أحد مسؤولي البنك -وتحفظ على ذكر اسمه- إذ قال: "الأمر يخص سلطة النقد"، قبل أن يُغلق الهاتف فورًا.

"مخالفة واضحة"

في المقابل، يرى المحامي هشام مصطفى أن ما حدث "مخالفة قانونية واضحة"، موضحاً أن البنك "أغلق حسابات نحو 700 محامٍ من أصل 2000 قبل نحو شهر، ولم يُعد فتحها جميعها حتى الآن".

ويشير إلى أن الأسباب التي ساقها البنك مثل "تحديث البيانات" أو "عدم الاستخدام العادل"، تفتقر لأي أساس قانوني أو منطقي، خاصة في ظل الظروف الكارثية التي يعيشها القطاع.

ويقول هشام بحدة: "البنك مطالب بإنهاء الإشكالية فورًا، وذلك ليس تفضلًا بل واجب قانوني وأخلاقي، ويجب على إدارته التدخل العاجل لحلها".

وألمح إلى وجود "ضغوط سياسية وإسرائيلية وراء القرار تستهدف المحامين تحديدًا، في محاولة لإضعاف صوت القانون في غزة".

في حديثه لـ"البوابة 24"، يوضح علي الدن، أمين صندوق نقابة المحامين في غزة، أن النقابة "رصدت تعطيل بنك فلسطين لمئات الحسابات الخاصة بمحامين مسجلين دون أي إنذار مسبق"، مؤكدًا أن "القرار زاد من معاناة المحامين الذين أصبحوا عاجزين عن تلبية احتياجات أسرهم الأساسية، بينما يعتمد معظم سكان القطاع على التطبيقات البنكية لتأمين حاجاتهم اليومية".

ويضيف الدن أن البنك "كان قادرًا منذ بداية الحرب على ابتكار آليات تيسّر على المواطنين، خاصة المحامين، مثل التحديث التلقائي للبيانات بالتنسيق مع النقابة، التي ترتبط بعلاقات واسعة معه عبر مشاريع مشتركة سابقة".

من جهة أخرى، حاول معدّ التقرير التواصل مع سلطة النقد الفلسطينية في رام الله للحصول على تفسير رسمي، إلا أن المسؤولين رفضوا التعليق، قبل أن يتحدث أحد الموظفين المطلعين على الملف –مشترطًا عدم ذكر اسمه– بالقول: "ما حدث تم بعلم سلطة النقد ووفقًا للقوانين الداخلية"، لكنه لم ينفِ وجود ضغوط سياسية وإسرائيلية لإغلاق أو تجميد حسابات في قطاع غزة، خاصة تلك التي يُشتبه بارتباطها بفصائل المقاومة أو بتعاملات مالية خارجية.

ويشير إلى أن "بعض الحسابات أُغلقت فعلاً لأسباب فنية كتحديث البيانات، لكن أخرى جُمّدت بسبب حوالات خارجية أو ملاحظات جنائية على أصحابها".

ويلفت إلى أن "سلطة النقد تراجع طلبات المتضررين في غزة، لكن بعض القضايا تأخذ وقتاً طويلاً، ولا يمكن حلّها إلا بعد إعادة فتح فروع المصارف المغلقة بفعل الحرب".

الحساب "عقد ملزم"

في الجانب القانوني، يؤكد المحامي إبراهيم أبو طه، أن الخطوة التي أقدم عليها البنك "مخالفة صريحة للقانون الفلسطيني"، موضحاً أن "البنوك لا يحق لها إغلاق أي حساب بنكي إلا بقرار قضائي أو بتعميم رسمي من سلطة النقد".
ويشرح أن "الإغلاق يجوز فقط في حال وجود شبهة جريمة مالية، وفق قانون مكافحة غسل الأموال رقم 20 لعام 2015م".
ويشير إلى أن "قانون المعاملات المصرفية رقم 9 لعام 2010م، ينص على أن الحساب البنكي عقد ملزم لا يجوز تقييده تعسفياً دون الرجوع لصاحبه أو توثيق الأسباب".

ويتحدث أبو طه بحرقة عن تجربته الشخصية قائلًا: "أغلق البنك حسابي واحتجز مدخراتي، ولم أعد قادرًا على الاستفادة منها، ما تسبب لي بأضرار كبيرة، خاصة أنني أعيش مع أسرتي المكونة من أربعة أفراد في خيمة نزوح بمواصي خانيونس".
ويضيف بانفعالٍ لا يخلو من مرارة: "سأرفع قضية ضد البنك في أقرب فرصة يتاح لي فيها ذلك؛ للمطالبة بتعويض عن الضرر الذي لحق بي وبغيري من الزملاء".

أحكام وقف الحسابات البنكية

أما الباحث القانوني لافي صبرة، فيوضح أن "قانون التجارة الفلسطيني نظّم أحكام وقف الحساب البنكي في المادتين 113 و114، اللتين تنصان على أن الإغلاق يتم فقط بتعليمات من سلطة النقد.

ويلفت إلى أن الحالات التي يجوز فيها الإغلاق محددة: "انتهاء العقد، أو وفاة صاحب الحساب، أو إفلاسه، أو فقدان الأهلية، أو في حال بقاء الرصيد صفرًا لأكثر من ستة أشهر".

وبناء على ذلك، يرى صبرة أن "ما جرى من إغلاق جماعي للحسابات في ظل الحرب لا يستند إلى أي مسوغ قانوني، بل هو إجراء باطل، وعلى بنك فلسطين التراجع الفوري عنه والاعتذار للمحامين المتضررين".

بين دفاتر القوانين وركام الحرب، يقف محامو غزة اليوم عالقين بين خيمة النزوح وأبواب البنوك المغلقة.
تحولت مدخراتهم إلى أرقام مجمّدة، وأوراق اعتمادهم إلى أوراق انتظار.

وفيما تتصاعد ألسنة النار في سماء المدينة، لا تزال فصول "الحرب المالية" مستمرة بصمت، تحاصر من بقي على قيد الحياة بلقمة العيش، وتضاعف من قسوة الأيام على من جعلوا من الدفاع عن القانون مهنة، ليجدوا أنفسهم الآن ضحايا لخرقه.

البوابة 24