غزة/ البوابة 24- صفاء كمال:
في صباحٍ رماديّ معبّق برائحة الركام، تمسك الطفلة لينا محمد (ثماني سنوات) بطرف ثوبها الممزق وتمضي مع والدتها نحو المدرسة. ترتدي مريولها المرقع الذي انتشلته أمها من تحت أنقاض المنزل المدمّر، وتمضي بخطواتٍ صغيرة خجولة نحو عالمٍ لم تعرفه من قبل. تقول والدتها: "طفلتي مبهورة بالطابور وبأن ترى الأطفال مصطفين في فصل واحد، لأنها لم تعرف من قبل ما معنى المدرسة أو الحياة الدراسية".
تتابع الأم بصوتٍ يملؤه الأسى: "لينا لا تعرف القراءة، وتجد صعوبة في مسك القلم. السنتان الماضيتان كانتا تعليمًا عن بُعد، وأنا لم أستطع مساعدتها بسبب النزوح وانشغالي بأعمال الخيمة الشاقة في ظلّ الحرب".
على بعد أمتار من الأم وابنتها، وقفت غزل (تسع سنوات) تحدّق بزملائها وهم يدخلون مدرسة الخيام رفقة أمهاتهم. تقول بحنينٍ طفوليّ: "كنت أتمنى أن تمسك أمي بيدي كما كانت تفعل، لكنها رحلت. الآن توصلني أختي سارة، وهي تكبرني بسنتين فقط، بدون مريول، ولا حقيبة، وبدون الحلويات التي كانت تحضّرها أمي".
تبتلع غزل دموعها وتضيف: "عندما أجد مسألة صعبة لا أجد من يساعدني، فوالدي خارج المنزل يبحث عن رزقنا. اشتقت لأمي كثيرًا، كانت تمنحني القوة".
أما حلا محمد (12 عامًا) التي نزحت مع عائلتها من بيت لاهيا، فتقول بصوتٍ متقطع: "قبل الحرب كنت أعيش مثل باقي الأطفال، أذهب إلى المدرسة بملابس نظيفة وطعام كافٍ، ومعدلي كان 99%. الآن لا مدارس حقيقية ولا معلمين كافين، أضطر أن أمشي مسافات طويلة لأصل إلى مركز تعليم بسيط، وتحت الشمس الحارقة". ثم تضيف بألمٍ واضح: "هذه مش عيشة، حابة العالم يوقف معنا، بس ما نشوف ذل بحياتنا".
في دير البلح، يصف أحمد صالح والد الطفل حمزة (سبع سنوات) المشهد بمرارة: "دوام ابني يبدأ الساعة الواحدة والربع ظهرًا تحت الشمس، ونسير لمسافة طويلة إلى مدرسة العكلوك. الفصل صغير لا يتسع، لا كراسي ولا طاولات، يجلسون على الأرض. حتى السبورة صغيرة جدًا". ويضيف بانفعال: "بحثت عن كتب وملازم ولم أجد. الدفتر سعره سبعة شواكل! حتى الحمامات غير متوفرة. البيئة التعليمية الحالية لا تليق بالبشر".
وفي داخل أحد الصفوف، تحاول المعلمة دينا بشير أن تزرع الأمل بين فوضى الألم. تقول: "في صفي طلبة لم يذهبوا للمدرسة منذ عامين، بعضهم في الصف الثالث ولا يعرفون كيف يمسكون القلم. هناك طلبة صف خامس يدرسون مع الصف الثالث؛ لأن مستواهم متقارب جدًا".
تتنهد وتكمل: "العقل لا يتعلم إن كان الجسد جائعًا. بعضهم لا يستطيعون التركيز بسبب سوء التغذية"، وتروي بابتسامة حزينة مشهدًا من يومها الدراسي: "سألت سؤالًا في الصف، فرفع أحد الأطفال يده، وبعده رفع الجميع أيديهم. إنهم ببساطة لا يعرفون أن رفع اليد يعني الرغبة في الإجابة".
وتتابع: "نحن لا نعلّم فقط الحروف، نحن نحاول أن نُعيد بناء مفهوم المدرسة في عقولهم. ما يحدث ليس تأخرًا دراسيًا فحسب، بل إبادة تعليمية بكل معنى الكلمة".
وراء هذه القصص، تلوح أرقام قاسية تروي فصلًا آخر من المأساة. وفق تقارير الأمم المتحدة واليونيسف، أكثر من 65% من مدارس قطاع غزة دُمّرت أو تحولت إلى ملاجئ، فيما خسر نحو 785 ألف طالب عامين متتاليين من التعليم، بينهم 45 ألف تلميذ من الصف الأول لم يبدأوا عامهم الدراسي الجديد أصلًا
لكن هذه الأرقام ليست إلا ظلالًا لأرواح صغيرة فقدت دفاترها ومقاعدها. أطفال يعرفون شكل الطابور، لكنهم لا يعرفون الحروف، ومعلمات يدرّسن في صفوفٍ مزدحمة تشبه الخيام، وجيلٌ كامل يحاول أن يتعلم كيف يكتب اسمه من جديد بين الركام.
لم يخسر الأطفال التعليم فقط، بل خسروا معنى أن يكونوا "طلابًا". لينا مثلًا لا تعرف كيف تمسك بالقلم، وغزل تحضر إلى المدرسة بكيسٍ بلا حقيبة، وحلا تسير تحت الشمس لتتعلم، وحمزة لا يجد مقعدًا أو كتابًا. أما الأهل، فقد صُدموا بواقع المدارس الجديدة؛ صفوف بلا نوافذ ولا سبورات كافية، وبيئة تنفر الأطفال من التعلم بدل أن تحتضنهم.
تقول الأخصائية النفسية عبير حسين: "إن ما يعيشه أطفال غزة اليوم ليس أزمة تعليم، بل جرح نفسي مفتوح". وتوضح أن الطفل الذي يجلس على أرضٍ متشققة دون مقعد أو كتاب، لا يتعلم الحروف فقط، بل يتعلم كيف يصمد.
تزيد: "حين يفقد الطفل بيئته الآمنة، ومدرسته التي تمنحه الإحساس بالاستقرار، يتحول التعليم من تجربة مفرحة إلى عبءٍ يذكّره بكل ما خسره".
وتتابع: "ضعف التركيز، القلق، الانطواء، وحتى تقليد الآخرين دون فهم، كلها مؤشرات على فقدان الإحساس بالأمان النفسي. فالطفل لا يستطيع أن يتعلّم إن كان خائفًا أو جائعًا أو يشعر بأنه غير مرئي"، مختتمة حديثها بالقول: "قبل أن نعطي الأطفال كتبًا ودفاتر، يجب أن نمنحهم شعورًا بأن المدرسة ما زالت مكانًا للحياة، لا استمرارًا للحرب. إصلاح التعليم في غزة يبدأ من ترميم القلوب الصغيرة التي تحاول أن تتذكر كيف يبدو الحلم".
في مشهدٍ يتجاوز الألم نحو الصمود، يبقى هؤلاء الأطفال –بأيديهم الصغيرة ودفاترهم الممزقة– رمزًا لجيلٍ يقاوم الخراب بالمعرفة. إنهم لا ينتظرون الشفقة، بل أن يُعاد إليهم حقهم في الطفولة، في التعلم، في أن يكونوا بشرًا وسط عالمٍ نسِيهم.
