بقلم: المحامي علي أبو حبلة
– يشكّل فوز الديمقراطي زهران ممداني برئاسة بلدية نيويورك منعطفًا تاريخيًا في السياسة الأمريكية، ليس فقط لأنه أول مسلم وأصغر من يتولى هذا المنصب منذ أكثر من قرن، بل لأنه يعكس تحولًا استراتيجيًا في بنية الوعي والممارسة السياسية داخل الولايات المتحدة. هذا الفوز يتجاوز البعد المحلي، ليعبّر عن بداية مرحلة جديدة في علاقة المجتمع الأمريكي بذاته، وفي توازن القوى داخل الحزب الديمقراطي. ينتمي ممداني إلى الجناح التقدمي في الحزب، وهو الامتداد الطبيعي لتيار بيرني ساندرز وأوكاسيو كورتيز، الذي يدعو إلى العدالة الاجتماعية والمساواة ومراجعة السياسات النيوليبرالية التي هيمنت لعقود. فوزه على شخصيات تقليدية مثل أندرو كومو وكورتيس سليوا يعبّر عن صعود جيل جديد من السياسيين الأمريكيين المؤمنين بتعدد الهوية والانفتاح الثقافي، في مقابل تراجع نفوذ المؤسسة الحزبية التقليدية التي كانت أسيرة التحالفات المالية واللوبيات الكبرى. سياسيًا، تمثل نيويورك مركز ثقل وواجهة للمجتمع الأمريكي، وفوز ممداني فيها يعني أن التيار التقدمي لم يعد هامشيًا، بل بات قادرًا على كسب ثقة الشارع في أهم مدينة أمريكية. هذا التحول مرشح لأن يعيد تشكيل موازين القوى داخل الحزب الديمقراطي، ويؤثر في استراتيجيات الانتخابات النصفية المقبلة عام 2026، حيث ستحتدم المنافسة بين الجناحين المعتدل واليساري على قيادة الحزب وصياغة خطابه المستقبلي. اجتماعيًا، يرمز فوز ممداني إلى تحوّل في القيم العامة للمجتمع الأمريكي نحو قبول أوسع للتعدد الثقافي والديني. فأن يتولى مسلم من أصول هندية قيادة أكبر مدينة أمريكية يعني أن مفهوم “الهوية الأمريكية” لم يعد حكرًا على لون أو عرق، بل أصبح أكثر انفتاحًا وشمولًا. هذا التحول يعكس نضوجًا في الوعي العام ورفضًا لخطابات الكراهية التي غذّتها مرحلة ترامب، ويؤكد أن المواطنة باتت المعيار الأول للقيادة والتمثيل. قانونيًا، يعزز هذا الفوز مبدأ العدالة التمثيلية والمساواة أمام القانون، إذ أتاح نظام التصويت الترتيبي فرصة حقيقية لتوسيع قاعدة المشاركة الديمقراطية وتمكين الأقليات. كما أن الخطاب الحقوقي الذي تبناه ممداني، والقائم على الدفاع عن حقوق المهاجرين والفقراء وضمان السكن والتعليم، يمثل ترجمة عملية لمفهوم “الديمقراطية الاجتماعية” الذي يسعى لتكريس العدالة كقيمة دستورية لا شعار انتخابي. هذا التحول السياسي والاجتماعي ستكون له انعكاسات خارجية غير مباشرة. فالمواقف التقدمية التي يتبناها ممداني، خصوصًا بشأن القضية الفلسطينية وحقوق الإنسان، تعكس تغيرًا تدريجيًا في الرأي العام الأمريكي، خاصة لدى الأجيال الشابة. فصعود قيادات من خلفيات مهاجرة ومتعددة الثقافات يفتح الباب أمام إعادة النظر في سياسات الانحياز الأمريكي لإسرائيل، ويعزز الخطاب الأخلاقي الداعي إلى احترام القانون الدولي وإنهاء ازدواجية المعايير في قضايا الشعوب المقهورة. إن فوز ممداني ليس مجرد إنجاز انتخابي، بل مؤشر على تحول بنيوي في المجتمع والسياسة الأمريكية، نحو نظام أكثر شمولًا وعدالة وانفتاحًا. إنه يعيد تعريف القيادة الأمريكية على أساس الكفاءة والقيم الإنسانية لا الانتماء العرقي أو الموروث الطبقي. ومع اتساع تأثير التيار التقدمي في المدن الكبرى، قد يجد الحزب الديمقراطي نفسه مضطرًا لتبني رؤية أكثر توازنًا في الداخل والخارج، خاصة تجاه العدالة الدولية وحقوق الإنسان في فلسطين، لتستعيد أمريكا مصداقيتها كدولة مؤسسات لا دولة مصالح وانتقائية سياسية. فوز ممداني إذًا هو رسالة داخلية وخارجية بأن التغيير في أمريكا لم يعد حلمًا نخبويًا، بل خيارًا شعبيًا آخذًا في التحقق، وأن الديمقراطية الحقيقية تبدأ من الاعتراف بالآخر، وتنتهي عند تحقيق العدالة للجميع.
