مؤتمر للمراجعة الوطنية وتخليد ذكرى الإبادة وصمود الشعب

بقلم:بكر أبوبكر
مازالت غزة تقع تحت طائلة الاجراءات الإسرائيلية الفاشية منذ ما أسمي وقف النار، فالاحتلال للمنطقة الصفراء شرقًا وغربًا مازال قائمًا وبشراسة، ويتوقع أن يطول فلا يتمكن المواطنون الفلسطينيون من العودة بسهولة لمنازلهم المهدّمة، ولا يستطيعون أن يفكروا للحظات قليلة بمتطلبات يومهم، فما بالك باليوم التالي من حياتهم بالعمل والدراسة، والذاكرة، والعيش بالحد الأدنى، فكل مقومات الحياة الطبيعية شبه منعدمة أو مازالت تزحف بين الأشواك.
إن ما حصل في قطاع غزة لا يشابه أي من المنعطفات التي مرّت بالثورة الفلسطينية قط. فلا يجدنّ أحد المبرّر ليحاول التحلل من المسؤولية عمّا حدث، والا فإننا نتحول لشعب قطيع يسير وراء المهللين والمطبلين والمدلّسين ويسبقهم فداءً لهذه الدولة المارقة، أو الفضائية السارقة لنضالاتنا أو تلك، أو لذاك الفصيل المنكوب بقياداته على حساب الشعب العظيم.
إن ما حصل في غزة لم يحصل مثله منذ الحرب الأوربية (المسماة العالمية) الأولى سواء بعدد الضحايا من الشهداء، والجرحى والمكلومين أو الناجين أو بحجم الدمار المهول وهو ما يستحق لذلك أن يخلّد فيزيائًا وبالذاكرة الوطنية والعربية والعالمية.
إن واجب الأمة العربية والاسلامية هو النُصرة لفلسطين، وهذه ليست مِنّة ترتبط بدفع مبالغ أغاثية هنا او هناك، وإن كانت أصلًا غير موجودة أوضعيفة جدًا، وإنما هو واجب مستحق لمن يؤمن بالحديث الشريف وتفسيراته أن الأمة كالجسد الواحد، أو يجب أن تكون لتستحق لقب أمّة! 
ليس المطلوب من الأمة أن تأتي وتقاتل ميدانيًا نيابة عن الفلسطينيين وإن كان مثل هذا قد حصل سابقًا في سياق التعبئة ذات البُعد الحضاري العربي الاسلامي فكانت الأمة تمثل أو تشبه الجسد الواحد الذي عملت فيه الامبريالية الأمريكية فعلها حتى تحطم الى شظايا وأشلاء ومِزَق.
إن للنضال اليوم أشكاله المتعددة التي لو اتحدت هذه الأمة حولها لأنقذت نفسها هي، وأنقذت البلاد والعباد لاسيما والثروات الهائلة من جغرافيا سياسية وثقافية وحضارية واقتصادية وتقانية ومالية وبشرية التي بها تستطيع أن ترسم خطًا بينها وبين الاستخراب (الاستعمار) الإسرائيلي-الأمريكي القائم الذي لا هدف لها الا إخضاع المنطقة والهيمنة عليها وإذلالها وليس على فلسطين ومحيطها فقط.
الوضع الداخلي الفلسطيني وكذا الوضع العربي لا يسرُ عدوًا ولا صديق، ففي حين أن الفلسطينيين وخاصة قياداتهم مازالوا عند حدود اللغة الاتهامية أو التبريرية لأي فعل، فإن عدم تجاوز مثل هذه العقلية سيعلق الاهتمام بفلسطين لسنوات طوال قادمة. ومن هنا وجب عدم القفز عن مسؤوليتنا الفلسطينية الداخلية، وكل الفصائل عمّا لحق بفلسطين بغزة ومنه بالضفة من مصيبة عظمى، ومقتلة وإبادة جماعية لم يسبق لها مثيل- لم يسبق لها مثيل ليس من باب المبالغة، وإنما من باب الحقيقة الموضوعية كما أشار عديد الكتاب الأجانب أنفسهم، وعيون المشاهدين المسترخين وراء الشاشات، وشهادات الناجين- فما بالك عند دخول الصحافة الاجنبية الى القطاع المدمر.
إن المسؤولية الوطنية تعني الاعتراف بالأخطاء والخطايا-وهي كثيرة- فيما آلت اليه المقتلة الإسرائيلية، وإن تباطؤ القيادات ونقص فهمها أو ترددها أوتعجلها في مراحل قد أوقع الشعب فيما لم يكن جاهزًا له قط. ومن هنا فإن الفصائل السياسية (وكذلك المجتمع المدني بنسب ما) مسؤولة بشكل من الأشكال فيما حصل لا نستثني حماس ولا الجهاد ولا الشعبية ولا فتح أو الديمقراطية وغيرها.
لطالما كتبنا وردّدنا أنه بدون المرور بعملية اعتراف علني بالمسؤولية، وبدون احتضان فكر المساءلة والمراجعة والنقد الذاتي لكل فصيل في ذاته، وفي الوعاء الوطني الجامع فإنه لا أمل بوحدة وطنية أو "فصائلية" حقيقية تفترض تحقيق الوحدة تأتي من وراء الفصائل.
إن عقد مؤتمر أو ندوات للمراجعة الوطنية وتسبقها الفصائلية هو واجب المخلصين داخل الفصائل وبدون ذلك يظل الفصيل الفلسطيني يدفن رأسه بالرمال وينطلق كأن شيئًا لم يكن. وكأن الأمر قد بدأ بتحري فلسطين عبر طوفان انحسر سريعًا لينتهي بدمار غزة كلها وتقسيمها الى شرقية وغربية في أسوأ هزيمة للأهداف الموضوعة التي تاهت تحت جبال الافتراضات التي لم تصمد قط. فلا شقيق قد تجاوب، ولا محور أكمل دوره، ولا قائد محور قد أتم ما وعد به  (أو وقع الظن أنه سيفعله) وبالاتجاه الآخر تراكض العرب بل والفلسطينيين نحو الأمريكي يرجونه العفو والمرحمة، كما يرجونه مجرد النظر في عيونهم فيما كان من "خطة ترمب" البائسة والمقترحات المقدمة للأمم المتحدة المتخمة بالوصاية وعقلية النهب والاحتلال.
إن مؤتمر المراجعة الوطنية هو واجب علينا، بل وعلى الأمة التي تحترم تاريخها، ومن المهم أن يشارك فيه أحرار الأمة، وأحرار العالم ممن وقفوا مع الشعب الفلسطيني وقفة عظمة وقوة حتى اليوم، وبدون ذلك سنسير بلا ظِلال.
إن مؤتمر المراجعة الوطنية المطلوب الآن واليوم قد سبقه محاولات مراجعة أو نقد ذاتي في كل مراحل الثورة سواء في المرحلة الاردنية أو اللبنانية أو في مرحلة ما بعد النكسة عام 1967 وكذلك الأمر في مراحل أخرى كان منه مرحلة أوسلو، ومرحلة الانتفاضة، ومرحلة حرب الخليج الأولى والثانية. وعلى ضعف هذه المراجعات ذات الطابع الجزئي أو المحدود والتي لم تتخذ الصفة الشمولية للفصيل أو للكل الوطني فإن مثل ذلك لا يمنع من الصحوة والدعوة لذلك ليعرف كل فصيل أين أساء وفشل وأين أسهم في مقتلة الشعب وبالمقابل أين أحسن أو نجح بلا تزويق أو تدليس وبلا فضائيات تطبيلية ولاكِبْر.
نعم لا يمكن (ولا يجب) المرور عن هذه المرحلة وكأن شيئًا لم يكن! وفي الحقيقة أن الضفة الفلسطينية تعاني أسوأ مراحلها من العدوان اليومي والقتل والحواجز وسلب الأرض وتغول الإرهابيين من فتيان وفتيات التلال والجيش الإسرائيلي، فيما لا ينكر ما يحصل في قطاع غزة الفلسطيني من تدمير مازال ممنهجًا ومتواصلًا رغم صُوَرِيّة ما سُمّي وقف النار الذي يسير على رجل واحدة، وأحيانًا بلا أرجل.
إن الحركة الوطنية الفلسطينية بكافة مكوناتها وبلا تمييزات ليست ذات معنى مطالبة بالاعتراف أولًا بهول الحدث العظيم والمأساة الكبرى مما لم يحدث لا منذ النكبة الأولى ولا قبلها وفي كل العالم. ما يستدعي حقيقة العمل لتخليد هذه "المقتَلَة وصمود الشعب" وما  يقتضي الاعتراف بالخطأ والخطيئة والمراجعة، للانطلاق قُدُمًا. وإلا فإننا سنواصل التخفي والكذب على الناس وكأننا في "مظلومية" حين نفشل وننهزم، ونحن في استبداد واستعلاء واستحقار للآخر حين "التمكين"!

البوابة 24