غزة: ما بين تفادي الصراع واستدامته

د. إياد أبو الهنود

شهدت مجريات الأحداث في قطاع غزة، قبل السابع من أكتوبر 2023 وبعده، تحوّلًا عميقًا في منطق إدارة الصراع، أربك المتابعين وأربك التحليلات السياسية التي وجدت نفسها أمام مشهدٍ جديد لا يخضع لمنطق الحرب أو السلام بمعناهما التقليدي، بل لأسلوبٍ مختلف في إدارة الأزمات يهدف إلى تفادي الانفجار الكامل أكثر من سعيه إلى إنهاء الصراع.

قبل ذلك التاريخ، كانت المواجهات بين إسرائيل وحركة حماس تدور ضمن قواعد شبه ثابتة: ضربات متبادلة وردود محسوبة، تنتهي غالبًا إلى تفاهمات مؤقتة تُعلن تحت مسمى “التهدئة” — وهي مفردة استحدثتها التجربة الفلسطينية لتدخل قاموس العلاقات الدولية بوصفها حالةً وسطًا بين الحرب والسلام، سرعان ما تُفضي إلى جولة جديدة من المواجهة.

في السنوات الأخيرة، برز ما يمكن وصفه بـ”استراتيجية تفادي الصراع”، وهي سياسة نشأت في الأصل داخل المجال العسكري لتجنّب المواجهات الشاملة، لكنها تطوّرت لاحقًا إلى أداة سياسية يُراد منها منع الانهيار دون تحقيق تسوية، ومع الوقت، تحوّلت هذه السياسة إلى نظامٍ مستقر لإدارة الصراعات؛ لا تُنهي الحرب ولا تُقيم السلام، بل تُبقي النار مشتعلة تحت الرماد.

في الحالة الفلسطينية، اتخذ هذا النمط شكله الأوضح بعد حرب الإبادة الجماعية التي شنّها الاحتلال الإسرائيلي على غزة؛ إذ تحوّلت النقاشات حول “وقف إطلاق النار” و“ترتيبات اليوم التالي” إلى إعادة إنتاجٍ للصراع بصيغةٍ أخرى، فبدلًا من بناء مسارٍ سياسي يضمن الحقوق ويعيد الاعتبار للإنسان الفلسطيني، تُطرح حلولٌ تقتصر على ضمان الهدوء، وضبط الحدود، وتحسين المعابر، وكأن القضية لم تعد مسألة حرية وعدالة، بل ملفًا إداريًا يُدار لتطويل عمر الصراع.

بهذا المعنى، أصبحت “استدامة الصراع” واقعًا مقصودًا بحد ذاته، هناك من يتغذّى على بقاء الصراع قائمًا، ومن يرى في استمراره مصلحةً سياسية أو اقتصادية أو أمنيّة، وهكذا تحوّلت غزة إلى مختبرٍ مفتوح لتجريب سياسات الاحتواء وتدوير الألم الفلسطيني بما يخدم توازنات الآخرين.

لكن ما بين “تفادي الصراع” و”استدامته”، يواجه الشعب الفلسطيني استنزافًا شاملًا في ظل استمرار حرب الإبادة الجماعية، سواء تمّت بشكلٍ مباشر وسريع أو ببطءٍ مقصود، فالنتيجة واحدة: يُقتل الإنسان، وتُقضم الأرض، وتُسلب الهوية، وما تبقّى يُدفع نحو التهجير القسري في مظهرٍ طوعي تحت ذرائع مختلفة.

لقد بات المشهد واضحًا بما لا يحتمل المجاملة أو الالتفاف أو التجميل؛ لم يعد مقبولًا أن تُقدَّم التوازنات السياسية على حساب الإنسان والأرض والوطن — وحتى على حساب القيم والدين.

آن الأوان لوضع النقاط على الحروف، وتجاوز اللحظة الراهنة بالعودة إلى جذر النضال الفلسطيني وما راكمه من إنجازاتٍ وتضحيات، وتدعيم ركائز الشرعية الوطنية بما يضمن وحدة القرار ووضوح الاتجاه؛ ولن يتحقق ذلك بالشعارات أو الخطابات، بل بخطواتٍ واقعيةٍ تعيد تعريف الصراع وتفكّك أدوات التحكم به، انطلاقًا من رؤيةٍ فلسطينيةٍ مستقلةٍ تُعلي المصلحة الوطنية العليا على حسابات الفصائل والمانحين والوسطاء.

الخطوة الأولى تتمثل في الحفاظ على مركزية القرار الفلسطيني، فاستدامة الصراع تتغذّى على غياب الموقف الموحّد؛ ويبدأ ذلك بإعلان حركة حماس إقرارها الصريح بمنظمة التحرير الفلسطينية بوصفها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، والوكيل الحصري في تمثيل الفلسطينيين والتفاوض وتوقيع الاتفاقيات، إلى جانب تفعيل مؤسسات المنظمة على أسس المشاركة والتوافق الوطني، بما يرسّخ دورها كمرجعية جامعة تعيد توحيد البوصلة وتوازن بين الثابت الوطني ومتطلبات المرحلة.

الخطوة الثانية هي تفكيك منطق “تفادي الصراع” ذاته، أي رفض البقاء في دائرة الانتظار الدائم لما يُسمّى “هدوءًا” مشروطًا، يجب أن تُدار المعادلة من منطلق أن الاستقرار لا يعني الصمت، وأن السلام الحقيقي لا يمكن أن يقوم على القهر، بل على العدالة وتكافؤ الحقوق والسيادة.

الخطوة الثالثة هي إعادة تعريف المقاومة ضمن مشروع وطني شامل لا يختزلها في البندقية ولا يُفرغها في البيانات، بل يجعلها فعلًا سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا متكاملًا يهدف إلى استدامة الاستقرار عبر استدامة الصمود، أي تحويل أدوات البقاء إلى مشروع بناءٍ وطني لا إلى وسيلة انتظارٍ دائمة لمعركةٍ جديدة.

الخطوة الرابعة هي تدويل الحق الفلسطيني على قاعدة تقرير المصير، عبر نقل النقاش من مربع “وقف إطلاق النار” إلى مربع “إنهاء الاحتلال”، ومن منطق “المعونات” إلى منطق “المسؤولية الدولية”.

فالقضية الفلسطينية ليست أزمة إنسانية فحسب، بل قضية شعبٍ يسعى إلى الحرية، ولا يمكن لأي ترتيبات أمنية أو إنسانية أن تحل محل هذا الحق الجوهري.

إن الطريق إلى "استدامة الاستقرار" يمر عبر مشروع وطني تحرري جامع، يقوم على العدالة والمحاسبة والتكامل بين المقاومة والسياسة والمجتمع، وعندها فقط يمكن تحويل “إدارة الصراع” إلى “إدارة تحرر”، و“تفادي الصراع” إلى تأسيس سلامٍ حقيقي قائمٍ على تقرير المصير والكرامة الإنسانية.

البوابة 24