المياه الجوفية تغرق في سموم الحرب والنفايات بغزة

غزة/ البوابة 24- رزان الحاج

منذ اندلاع الحرب، انهارت منظومة المياه والصرف الصحي في غزة بشكل واسع، إذ توقفت معظم محطات التحلية عن العمل كليًا أو جزئيًا، فيما دُمّرت عشرات الآبار البلدية. هذا الانهيار جعل الحصول على مياه آمنة للشرب تحديًا يوميًا يهدّد حياة المدنيين، ويضاعف من معاناة النازحين الذين يعيشون في ظروف قاسية داخل المخيمات.

تقول السيدة أمينة بسيسو: «أصبح الماء يخيفني أكثر من القصف، فكل دلو أرفعه أشعر أنّه قد يهدّد صحة أطفالي بدل أن يروي عطشهم.» بهذه الكلمات تختصر أمينة معاناة آلاف العائلات في غزة مع المياه غير الصالحة للشرب، وهي تحكي تجربتها خلال فترة نزوحها، حيث اضطر المخيم الذي لجأت إليه إلى حفر بئر بدائي بين الخيام لتأمين الحد الأدنى من المياه بعد تدمير محطات التحلية.

قصة أمينة ليست حالة فردية، بل صورة مصغّرة لأزمة جماعية تتفاقم يومًا بعد يوم. فالماء الذي يُفترض أن يكون مصدر حياة، تحوّل في غزة إلى مصدر خوف ومرض، ليضيف إلى المدنيين عبئًا جديدًا فوق أعباء الحرب والنزوح، ويجعل أبسط الحقوق الإنسانية ــ الحق في شربة ماء نظيفة ــ حلمًا بعيد المنال.

بحسب بيانات سلطة المياه، فقد تضرّر 208 من أصل 360 بئرًا كانت تعمل قبل الحرب، إمّا بالتخريب أو بالتوقف عن الخدمة، فيما يعمل عدد آخر بشكل جزئي.

وقد أدّى توقف محطات التحلية إلى دفع الأهالي للاعتماد على آبار سطحية وحلول بدائية، تُحفر في كثير من الأحيان قرب مكبّات نفايات عشوائية أو في مناطق ملوّثة، الأمر الذي زاد من احتمالات اختلاط المياه الملوّثة بالمياه السطحية والجوفية.

28fd4ca2-2f17-489c-9b33-5a007c40aceb.jpg

انهيار منظومة المياه والصرف الصحي في غزة

في مقابلة مع الدكتورة إسلام الهبيل، المختصة في الهندسة البيئية والكيميائية، أوضحت أن تسرب عصارة المكبات العشوائية يشكّل تهديدًا خطيرًا للصحة العامة. وأكدت أن هذه العصارة تتكون من خليط شديد السمية يضم البكتيريا القولونية والفيروسات وبقايا الأدوية والمعادن الثقيلة مثل الرصاص والزئبق، إضافة إلى المركبات العضوية السامة والجسيمات البلاستيكية الدقيقة. وشددت على أن أي بئر يُحفر بالقرب من هذه المكبات يكون عرضة لمخاطر صحية جسيمة، حيث يُعد الأطفال والنساء الفئة الأكثر تأثرًا بالمضاعفات، مثل الأمراض المعوية والتسممات الكلوية والعصبية.

وأضافت الهبيل أن التلوث لا يقتصر على النفايات المنزلية والطبية فحسب، بل يمتد أيضًا إلى مخلفات القصف والذخائر والمتفجرات. وأوضحت أن المواد الكيميائية الناتجة عن الانفجارات، والمعادن الناتجة عن الشظايا، ومركبات المتفجرات التي تبقى في التربة، يمكن أن تنجرف مع مياه الأمطار أو عمليات الري نحو الخزان الجوفي، أو تترسّب في التربة، وهو ما ينعكس سلبًا على الصحة الزراعية والغذائية على المدى الطويل.

وفي السياق ذاته، أكدت أن لهذه الملوثات تداعيات بعيدة المدى تهدد الأمن الغذائي، إذ يعتمد المزارعون على هذه المياه لريّ محاصيلهم. وأوضحت أن المواد السامة تتسرب إلى التربة وتترسّب في النباتات عبر عملية التراكم الحيوي، لتصل لاحقًا إلى المستهلك عبر الأغذية أو الحيوانات، مما يضاعف مخاطر التسمم المزمن والأمراض طويلة الأمد، بما في ذلك السرطان واضطرابات النمو لدى الأطفال.

وفي ظل هذه التحديات البيئية والصحية، بدأت البلديات تلمس آثار الأزمة بشكل مباشر، أكد نزار عايش، رئيس بلدية دير البلح، أنّ أحد الآبار الرئيسية في المدينة اضطر إلى الإغلاق بعد ظهور تغيّر واضح في طعم ورائحة المياه، أعقبته نتائج فحوصات أثبتت تلوثها. وأوضح أنّ استمرار اقتراب المكبات العشوائية من مصادر المياه سيؤدي إلى إغلاق مزيد من الآبار، وهو ما يضع آلاف السكان أمام أزمة مائية مركّبة.

وأضاف عايش أنّ البلديات تعمل اليوم بقدرات محدودة نتيجة نقص الوقود والمعدات، الأمر الذي يعيق حتى أبسط المهام، مثل جمع النفايات أو إنشاء مواقع دفن مؤقتة آمنة.

تحذيرات علمية ودولية من تداعيات طويلة الأمد

كشف تقرير صادر عن برنامج الأمم المتحدة للبيئة بتاريخ 23 سبتمبر 2025 عن مستويات غير مسبوقة من الأضرار البيئية التي لحقت بقطاع غزة، شملت التربة والمياه العذبة والسواحل البحرية. وأكد التقرير أنّ التعافي من بعض هذه الأضرار قد يستغرق عقودًا، مشيرًا إلى الانهيار الكامل للبنية التحتية للمياه والصرف الصحي، وتدمير شبكات التحلية ومحطات المعالجة، إضافة إلى الاعتماد على الحفر الامتصاصية في مناطق النزوح، وهو ما أدى إلى تسرب مياه الصرف غير المعالجة والمياه الملوثة بالنفايات إلى الحوض الجوفي، المصدر الرئيسي لمياه الشرب في القطاع.

وأوضح التقرير أنّ هذه الأضرار تسببت في تلوث شديد للمياه الجوفية، ترافق مع ارتفاع معدلات الأمراض المعدية المرتبطة بالمياه، مثل الإسهال المائي الحاد ومتلازمة اليرقان الحاد (التهاب الكبد A). كما شدّد على أنّ تعافي النظم المائية وإصلاح الخزان الجوفي سيستغرق سنوات طويلة وجهودًا متواصلة لإعادة الضخ والمعالجة، بما يضمن استعادة مياه شرب آمنة وحماية صحة السكان في المستقبل.

تظل الصورة الإنسانية هي الأشد وقعًا: أمّ تحمل القوارير لتملأها لأطفالها، تقف في طوابير طويلة تحت شمس لاهبة أو برد قارس، من أجل دلو لا يكفي سوى ليوم واحد. ومن دون مياه آمنة ومستدامة، تتراكم الأمراض وتتدهور الظروف المعيشية يومًا بعد يوم، لتغدو محاولات البقاء رهينة بين عطش يفتك بالأجساد وماء ملوّث يهدّد الصحة.

a4529b84-5a16-4605-99c6-ceea6587f5e0.jpg

 

البوابة 24