بقلم: المحامي علي أبو حبلة
شهدت السنوات الأخيرة تحولًا جذريًا في صناعة المحتوى الرقمي، حيث لم تعد منصات التواصل الاجتماعي مجرد أدوات للتواصل أو الإبداع، بل أصبحت سوقًا اقتصاديًا وسياسيًا واجتماعيًا يفرض تحديات كبيرة على صناع المحتوى. هذا التحول يرتبط بأربعة عناصر رئيسية: مشاريع الدفع المسبق، الفكر المعلّب، التطبيع الرقمي، والإدمان الرقمي، وكلها تثير تساؤلات حول المسؤولية القانونية والأخلاقية والاجتماعية لصانع المحتوى. أولًا: مشاريع الدفع المسبق – شراء الرأي والوعي دخلت عقود الدفع المسبق في صناعة المحتوى كأداة لتمويل الإنتاج، لكنها غالبًا تأتي مع اشتراطات محددة تؤثر على طبيعة المحتوى. القانون الدولي والإعلامي ينص صراحة على: الشفافية والإفصاح عن مصادر التمويل وفق معايير اليونسكو لحماية حرية الرأي والنشر. حظر التضليل الإعلامي أو الترويج لمصالح سياسية أو تجارية دون الإفصاح للجمهور. المساءلة القانونية عن أي محتوى يضر بالمصلحة العامة أو يروج للكراهية أو العنف. اقتصاديًا، أصبح المحتوى الرقمي سلعة لها قيمة سوقية، حيث تقدر شركات الأبحاث العالمية حجم السوق بـ أكثر من 100 مليار دولار سنويًا، ما يعكس تأثيرها الكبير على الاقتصاد الرقمي وسلوك المستهلك. ثانيًا: الفكر المعلّب – إعادة إنتاج القوالب الجاهزة ينتشر في السوق الرقمي اليوم ما يُعرف بـ الفكر المعلّب: مقولات وأفكار جاهزة تُعاد تدويرها دون تحليل أو تحقق، ما يخلق وعيًا جماعيًا قائمًا على معلومات سطحية أو مضللة. من الناحية الاجتماعية والثقافية، هذا الأسلوب يضعف قدرة الجمهور على النقد والتحليل، ويؤثر على الهوية الثقافية والقيم الوطنية، خصوصًا بين الشباب. كما تشير الدراسات إلى أن المحتوى المعلّب يسهم في تكرار الصور النمطية، ويُضعف المشاركة المدنية الحقيقية، وهو ما دفع العديد من الدول لتطبيق تشريعات ضد التضليل الرقمي والإشاعات، مثل قانون مكافحة الأخبار الكاذبة في بعض الدول الأوروبية. ثالثًا: التطبيع الرقمي – خطر على القيم الوطنية والدينية يُعتبر التطبيع الرقمي أحد أخطر أبعاد صناعة المحتوى الحديث، حيث يتم تطبيع الجماهير على أفكار سياسية أو اجتماعية حساسة عبر محتوى ترفيهي، موسيقي أو فيديوهات قصيرة، ما يؤدي إلى: تقليل الحساسية الوطنية والقيمية تجاه قضايا الوطن. خلق قبول ضمني لممارسات قد تكون مخالفة للقانون الدولي أو الأعراف الإنسانية. التأثير على القرارات السياسية والاجتماعية للأفراد والمجتمع. هذا التطبيع ليس مجرد ظاهرة إعلامية، بل يمتد إلى البعد الثقافي والديني، ويستلزم مراقبة قانونية وأخلاقية، خصوصًا حين يتعلق بمحتوى يروّج للعنصرية أو الكراهية أو يشوّه القيم الدينية. رابعًا: الإدمان الرقمي – الاقتصاد والمجتمع في مواجهة المنصات الإدمان الرقمي لم يعد قضية فردية، بل أصبح تحديًا اجتماعيًا واقتصاديًا: اجتماعيًا: يقلل من التواصل الواقعي بين أفراد الأسرة، ويزيد من معدلات القلق والاكتئاب بين الشباب. اقتصاديًا: يزيد اعتماد الأفراد على التجارة الإلكترونية والإعلانات الموجهة، ما يخلق اقتصادًا قائمًا على البيانات الشخصية. ثقافيًا: يُضعف القدرة على التركيز والتحليل، ويعزز السطحية في التعليم والثقافة. تشير تقارير منظمة الصحة العالمية إلى أن الاستخدام المفرط للشاشات يؤثر على الصحة العقلية والجسدية للشباب، بينما تنبه اليونسكو إلى ضرورة بناء سياسات وطنية للتعامل مع الإدمان الرقمي وحماية الهوية الثقافية. خامسًا: صانع المحتوى والمسؤولية القانونية والأخلاقية صانع المحتوى الرقمي محور العملية بأكملها، ومسؤوليته لا تقتصر على جذب المشاهدات أو تحقيق الأرباح، بل تشمل: 1. الشفافية والصدق: الالتزام بالمعلومة الصحيحة والكشف عن أي تحيز أو تمويل. 2. حماية الجمهور: الامتناع عن نشر محتوى ضار، خاصة للقاصرين، أو يدعو للعنف أو الكراهية. 3. الامتثال للقوانين: مراعاة القوانين المحلية والدولية المتعلقة بالنشر الرقمي، حقوق الإنسان، وحرية التعبير. 4. المسؤولية الأخلاقية والدينية: كل محتوى يُنشر يشكل وعي الجمهور، ويكون صانع المحتوى مسؤولًا عنه أمام المجتمع وأمام الله عز وجل، كما نص القرآن الكري > "وما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد" أن صناعة المحتوى الرقمي تمثل اليوم فرصة ذهبية للوعي والمعرفة، لكنها تحمل أيضًا مخاطر قانونية وأخلاقية واقتصادية واجتماعية. يجب على صانع المحتوى أن يكون واعيًا: بأن كل كلمة يكتبها أو ينشرها لها أثر مباشر على المجتمع. بأن القانون يراقب التضليل والتحريض والإضرار بالمصلحة العامة. وأن الأخلاق والدين يضعان لكل محتوى حدودًا لا يجوز تجاوزها. في النهاية، صناعة المحتوى مسؤولية كبيرة، ونجاحها الحقيقي يقاس بقوة الرسالة، مصداقية المعلومة، وحماية المجتمع من التضليل والتدهور الأخلاقي والثقافي.
