وائل بعلوشة
لم تتوقف الحرب في غزة تمامًا، بل توقفت فقط في شكلها الأكثر ضراوة؛ تلك اللحظات التي كانت فيها السماء تُنذر بالموت أكثر مما تمنح الضوء، وتلك الأيام التي كان فيها الغبار أكثر حضورًا من الهواء. هدأت أصوات القذائف، لكن آثارها ما زالت تقف في كل زاوية، على الحيطان المتكسّرة، في العيون التي لم تعد تعرف النوم، وفي الروح التي تعلّمت أن تتحمّل أكثر مما يُفترض أن يتحمّله البشر.
ورغم هذا السكون الخادع، تواصلت تداعيات الحرب، تغيّر شكل المدينة، تغيّر الناس، وبدأت تتشكّل فوق الأنقاض أسئلة أكبر من قدرة قلب واحد على حملها. في هذا الفراغ المتروك بين الدمار وبداية الإعمار، توافرت نوايا عالمية متباينة مجلس الأمن يعلن تشكيل مجلس السلام و قوة الاستقرار، والحديث يكثر عن جسم إداري مهني لإدارة غزة في المرحلة المقبلة. لكن التفاصيل تبقى ضبابية، والصورة لم تتضح بعد، حتى لأولئك الذين يُفترض أنهم أصحاب الحق الأول والأخير: الفلسطينيون أنفسهم.
وربما في هذه الضبابية بالذات يكمن جوهر القلق؛ إذ يشعر الفلسطيني بأن القرارات التي تخص حياته ومصيره تُناقش في قاعات بعيدة، يشارك فيها كثيرون إلا هو، وتتخذ بلغة ليست لغته، وتُكتب على أوراق لا تحمل توقيعه. وكأن العالم اعتاد أن يكون الفلسطيني موضوعًا للبحث، لا طرفًا حاضرًا فيه، وكأن قدره أن ينتظر التفسيرات بدل أن يصنعها.
كانت خطوات الناس بين الركام تحمل أسئلة أكثر مما تحمل وجهات واضحة. وفي الصباحات التي تشبه بدايات مترددة، بدا أن كل حجر مكسور يثير تساؤلًا جديدًا حول مستقبل المدينة، هل ستُعاد إعمار الأماكن كما عرفها أهلها؟ أم ستُرسم لها ملامح جديدة وفق رؤى تُصاغ في غرف مغلقة بعيدة عن أصحاب الحق؟ لقد صار المشي في الشوارع المحطمة أشبه بقراءة مفتوحة لمصير لم يُكتب بعد، مصير يطمح الفلسطينيون إلى أن يكون انعكاسًا حقيقيًا لإرادتهم لا امتدادًا لخيارات الآخرين.
لم تكن هذه الأسئلة شأن فردٍ واحد، بل صدى لصوت جماعي يتلمّس يقينًا غائبًا؛ يقينًا بأن ما سيأتي لن يُصاغ مرة أخرى خارج إرادة الناس، ولا يُفرض فوق رؤوسهم، ولا يُنتقص فيه من حقهم الأصيل في إدارة شؤونهم العامة.
فالحديث الدائر عن الأجسام الجديدة، مهما بدت نواياها طيبة، يشبه إلى حدّ ما وجود ضيف فوق الركام يريد مساعدتك في إعادة بناء بيتك… لكنه يُصرّ على اختيار تصميم الغرف وتحديد عدد النوافذ وارتفاع السقف. هو لا يريد الشر، لكنه لا يريد الاستماع أيضًا. وهنا تمامًا يتولد الشعور بالتيه، وتكبر مخاوف الفلسطيني من أن يُعاد تشكيل حياته بطريقة لا تعكس روحه ولا تحترم ذاكرته.
لم يكن الفلسطينيون يومًا ضد التنظيم الدولي أو الرقابة الإنسانية، ولا رفضوا يدًا تمتدّ للمساعدة. لكنهم يعرفون، بتجربة تاريخية ثقيلة، أن المساعدة حين لا تُرفَق بالاحترام تتحوّل أحيانًا إلى وصاية، والوصاية تتحول إلى قيد ناعم، ثم يصبح القيد قاعدة، والقاعدة عُرفًا، والعُرف مصيرًا لا يملكون تغييره.
ولذلك، فإن السؤال المركزي الذي يعلو فوق كل الأسئلة الآن:
من يملك الحق في تقرير شكل إدارة غزة؟
الجواب في جوهره بسيط ومعروف، لكنه يحتاج إلى جرأة ليُقال بصوت واضح
الفلسطينيون وحدهم.
غير أن إعلان هذا المبدأ لا يكفي إذ يجب أن يتحول إلى آليات واضحة وأدوار محددة وتجسيد فعلي لمفهوم المساءلة، فالمساءلة ليست تعبيرًا يرد في البيانات الرسمية بل منظومة تقوم على أن تكون كل جهة تعمل في غزة خاضعة لإرادة الناس ومحاسبتهم وأن تكون في موقع الخدمة لا موقع الهيمنة.
فالمساءلة ليست ترفًا سياسيًا، بل هي حائط الحماية الأول لحق الشعب في أن يكون شريكًا في صناعة مصيره، لا متلقيًا لنتائجه.
حين يُطرح الحديث عن قوة استقرار أو يُشار إلى مجلس للسلام أو إلى جسم إداري مهني فإن على هذه الكيانات أن تعي أن أي دور تؤديه يجب أن يكون محددًا بسقف زمني واضح وأن يكون هدفه النهائي تمكين الفلسطينيين من إدارة شؤونهم بأنفسهم لا استبدال الاحتلال بوصي جديد ولا إنشاء نموذج إداري مؤقت يتحول مع الزمن إلى واقع دائم.
فالمرحلة المقبلة ليست مجرد إعادة فتح طرق أو ترميم بنى تحتية أو إزالة ركام بل هي مرحلة إعادة ترميم الإنسان الفلسطيني نفسه وإحياء روحه واستعادة ثقته وتجديد علاقته بالمدينة وتعزيز قدرته على تصور غد أفضل وترسيخ حقه في أن يسأل إلى أين نمضي ومن يقود الطريق؟
وحين يكون المستقبل غامضًا على أصحاب الأرض، فإن كل عملية بناء مهما كانت جميلة، تبقى مهددة بالانهيار لأنها لم تتأسس على مشاركة حقيقية.
قبل الحرب، كان الفلسطينيون يتعاملون مع مؤسساتهم المحلية بتراتبية معتادة، بواقع سياسي له تناقضاته، لكنه واقع مفهوم بالنسبة لهم. وبعد الحرب، ومع الحديث عن أجهزة جديدة غير متفق عليها، أصبح الفلسطيني يشعر بأن الأرض تحته تتحرك دون أن يعرف اتجاهها. وهذه الحالة من التيه تزيد من العبء النفسي على الناس الذين لم يشفوا أصلًا من صدمة الحرب.
من حقه، إذن، أن يسأل:
من أنتم؟ ماذا تريدون؟ ما هي صلاحياتكم؟ ولمن تخضعون؟ وإلى متى ستبقون؟
هذه ليست أسئلة تحدٍّ، بل أسئلة انتماء: أسئلة شخص يريد أن يعرف من يشارك معه إعادة خلق مدينته.
وفي المقابل، من واجب كل من يتقدم لأداء دور في غزة أن يجيب بوضوح:
من نحن، ماذا نفعل، ولماذا نفعل ذلك، وكيف سننهي مهمتنا وننسحب تاركين المكان لأصحابه.
فالصراحة هنا ليست خيارًا، بل ضرورة سياسية وأخلاقية.
إن إعادة بناء غزة على نمط ينسجم مع تاريخها و إرادتها و هويتها لا يمكن أن تتم إلا بالشراكة مع الناس. ليس عبر اللجان الشكلية، ولا عبر لقاءات بروتوكولية، بل عبر إشراك حقيقي للفلسطينيين في تحديد أولويات الإعمار،هل يُعاد بناء المدارس أولًا؟ أم المراكز الطبية؟ هل تعود المناطق كما كانت؟ أم يتم إعادة تصميمها؟ ما شكل الحكم المحلي؟ وما طبيعة الإدارة؟ وما علاقة الداخل بالخارج؟
هذه الأسئلة ليست تقنية كما قد يظن البعض؛ هي هوية، مستقبل، وحق أصيل.
وإلى جانب الحق في المشاركة، يجب التأكيد على أن المساءلة هي ما يمنح المشاركة قيمتها. فمن دون مساءلة، يصبح العمل الإداري مجرد واجهة. والمساءلة هنا ليست فقط من الفلسطينيين تجاه المؤسسات، بل أيضًا مساءلة المؤسسات الدولية نفسها عن دورها وحدود هذا الدور، ومساءلة الفاعلين السياسيين عن نواياهم، ومساءلة المجتمع الدولي عن التزامه بالوعد الذي كرره مرارًا، دعم الفلسطينيين في طريقهم نحو دولتهم المستقلة.
وفي النهاية، فإن الشراكة الحقيقية لا تتحقق إلا حين يدرك الجميع أن وجود أي جسم خارجي في غزة ليس نهاية الطريق، بل هو مرحلة انتقالية محدودة بزمن واضح، لا تتجاوز غايتها تسليم الفلسطينيين مفاتيح إدارتهم الذاتية الكاملة.
وهكذا، بين ركام الأمس ومفاوضات الغد، تبقى الحقيقة الأكثر وضوحًا:
أن الفلسطيني، الذي دفع الثمن الأكبر في الحرب، يملك الحق الأكبر في أن يحدد شكل السلام.
وأن إعادة بناء غزة ليست مشروعًا هندسيًا أو سياسيًا فحسب، بل إعادة بناء للكرامة والهوية.
وأن أي جهد دولي لن يُكتب له النجاح ما لم يُحترم فيه حق الفلسطيني في المساءلة، و المشاركة، و الحضور الكامل في تقرير مصيره.
وأن السقف الزمني لأي وجود خارجي يجب أن يكون معلنًا، وغير قابل للمراوغة، وتنتهي عنده كل الأدوار المؤقتة ليبدأ الدور الطبيعي والوحيد الممكن، إدارة الفلسطينيين لأنفسهم… دون وصاية ولا ظلال
