التهجير القسري في غزة: قراءة قانونية واستراتيجية في تقرير "بتسيلم"

 بقلم: المحامي علي أبو حبلة

لم يعد ما جرى في قطاع غزة منذ تشرين الأول/أكتوبر 2023 قابلًا للفهم بوصفه مجرد تداعيات حرب أو إجراءات عسكرية مؤقتة. فالتقرير المطوّل الذي أصدرته منظمة «بتسيلم» الحقوقية الإسرائيلية يقدّم توثيقًا قانونيًا خطيرًا يؤكد أن التهجير القسري واسع النطاق لم يكن نتيجة جانبية للعمليات العسكرية، بل سياسة ممنهجة استُخدمت كأداة مركزية في إدارة الحرب وإعادة تشكيل الواقع السكاني في القطاع. تكمن أهمية التقرير في كونه صادرًا عن منظمة إسرائيلية، ما يمنحه وزنًا خاصًا في النقاش القانوني الدولي، ويُضعف سردية “الدفاع عن النفس” التي تُستخدم لتبرير ما لا يمكن تبريره قانونيًا أو أخلاقيًا. يوثّق التقرير صدور ما لا يقل عن 161 أمر إخلاء خلال الفترة الممتدة بين 2023 و2025، شملت معظم مناطق قطاع غزة، وأدّت عمليًا إلى تهجير أكثر من 90% من السكان. هذا النمط المتكرر من النزوح القسري، دون ضمانات للعودة أو توفير مأوى ملائم، يخرج تمامًا عن إطار “الإخلاء المؤقت” الذي يجيزه القانون الدولي الإنساني استثناءً، ويؤسس لواقع تهجير دائم ومفتوح. من الناحية القانونية، فإن ما وثقته «بتسيلم» يشكّل انتهاكًا صريحًا لقواعد آمرة في القانون الدولي، أبرزها حظر النقل الجبري للسكان المدنيين المنصوص عليه في اتفاقية جنيف الرابعة، وتصنيف التهجير القسري كجريمة ضد الإنسانية وفق نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، متى تم في إطار هجوم واسع أو منهجي، وهو ما ينطبق بوضوح على الحالة المدروسة. الأخطر أن سياسة التهجير ترافقَت مع التجويع الممنهج، وتدمير منظومات الغذاء، ومنع إدخال المساعدات، وحصر السكان في ما سُمّي “مناطق إنسانية” تقلّصت تدريجيًا حتى لم تتجاوز 11% من مساحة القطاع. هذه الممارسات لا يمكن توصيفها كفشل إنساني، بل كاستخدام للجوع والحرمان كوسيلة حرب محظورة قانونًا. من منظور اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية لعام 1948، فإن إخضاع جماعة سكانية لظروف معيشية يُراد بها تدميرها كليًا أو جزئيًا، وإلحاق أذى جسدي أو نفسي جسيم بها، يدخل ضمن الأفعال المكوّنة لجريمة الإبادة. وتوثيق «بتسيلم» للأثر النفسي الواسع، حيث أظهرت الدراسات انتشار اضطراب ما بعد الصدمة بنسب غير مسبوقة، يعزّز قرينة القصد الجنائي، أو على الأقل يفتح الباب أمام مساءلة قضائية جدّية. سياسيًا، يكشف التقرير فشل المجتمع الدولي في فرض احترام القانون الدولي، وعجز منظومة العدالة الدولية عن ردع الانتهاكات الجسيمة، رغم أوامر محكمة العدل الدولية. كما يضع الدول الداعمة لإسرائيل أمام مسؤولية قانونية غير مباشرة بموجب مبدأ عدم الإعانة أو المساعدة في ارتكاب فعل غير مشروع دوليًا. إن ما تكشفه «بتسيلم» لا يقتصر على توصيف مأساة إنسانية، بل يقدّم لائحة اتهام قانونية مكتملة الأركان. وغزة، في هذا السياق، لم تعد فقط ضحية حرب، بل تحوّلت إلى اختبار حقيقي لمصداقية القانون الدولي: إما أن يُطبَّق على الجميع، أو يفقد معناه وقيمته الأخلاقية.

البوابة 24