على الرغم من الحرب الإسرائيلية المدمّرة على قطاع غزة، وما خلّفته من انهيار واسع في الأوضاع الاقتصادية والمعيشية، كشفت بيانات صادرة عن سلطة النقد الفلسطينية عن ارتفاع لافت في حجم ودائع المواطنين لدى البنوك المحلية، في مفارقة تعكس عمق الأزمة أكثر مما تشير إلى تعافٍ اقتصادي.
وأظهرت البيانات قفزة غير مسبوقة في إجمالي الودائع بالبنوك الفلسطينية من نحو 16 مليار دولار إلى 22 مليار دولار خلال الحرب، فيما ارتفعت ودائع قطاع غزة من 1.74 مليار دولار في أكتوبر/تشرين الأول 2023 إلى 4.84 مليار دولار بنهاية أغسطس/آب 2025، بنسبة زيادة بلغت نحو 178%.
ويرى مسؤولون وخبراء اقتصاديون أن هذه الزيادة لا تمثل نمواً حقيقياً، بل هي “طفرة وهمية” ناتجة عن تعطّل القدرة على السحب، وتكدّس الأموال داخل الحسابات المصرفية، في ظل توقف شبه كامل للنشاط الاقتصادي.
بنوك مدمّرة ونقود غائبة
قبل الحرب، كان يعمل في قطاع غزة 10 بنوك تدير 57 فرعاً مصرفياً، تعرّض معظمها للتدمير أو الأضرار الجسيمة جراء القصف الإسرائيلي. وبعد الحرب، لم يعد يعمل سوى نحو 10 فروع فقط، تقدم خدمات محدودة وتكاد تخلو من التعامل النقدي.
وتمنع السلطات الإسرائيلية منذ بدء الحرب إدخال أي كميات من السيولة النقدية إلى البنوك في غزة، ما حال دون تمكين المواطنين من سحب أموالهم، وأجبر البنوك على الاكتفاء بالتحويلات عبر التطبيقات الإلكترونية.
وبحسب مسؤولين، دُمّرت مقرات عدة بنوك بشكل كامل، من بينها فروع بنك الأردن والبنك المصري العقاري، فيما لم تعد غالبية البنوك صالحة للعمل، باستثناء بعض الفروع المحدودة في دير البلح والنصيرات. كما لم تُحصر بعد خسائر القطاع المالي، بما في ذلك الأموال النقدية والمجوهرات والودائع العينية التي تعرضت للسرقة من خزائن البنوك.
ادخار قسري وشلل في الاستثمار
مسؤول حكومي فلسطيني أوضح أن الحكومة واصلت دفع رواتب الموظفين والمتقاعدين خلال الحرب بقيمة شهرية تبلغ 265 مليون شيكل، ما يعني أن قرابة ملياري دولار دخلت إلى حسابات المواطنين في بنوك غزة دون أن يتمكنوا من سحبها.
وتضاف إلى ذلك رواتب موظفي القطاع الخاص والمؤسسات الدولية، إلى جانب التحويلات المالية من الخارج، ما أدى إلى تكدّس السيولة داخل النظام المصرفي دون تحريكها في السوق.
ويرى خبراء اقتصاديون أن هذا الواقع يعكس حالة “ادخار قسري” ناجمة عن غياب التجارة والاستثمار، والخوف، وتوقف الأعمال. وأكدوا أن وجود مليارات الدولارات في الحسابات البنكية لا يعكس تحسناً اقتصادياً، بل يشير إلى اقتصاد مشلول تراجع فيه الناتج القومي الإجمالي بنسبة وصلت إلى 29%.
اقتصاد الحرب: تكييش وتجار وثراء مشبوه
في ظل غياب السيولة النقدية، تفاقمت أزمة “التكييش” في غزة، حيث يلجأ المواطنون إلى الحصول على النقد مقابل عمولات مرتفعة وصلت في بعض الفترات إلى 50%، فيما بات التكدس أمام ماكينات الصراف الآلي القليلة مشهداً يومياً.
وفي المقابل، برزت خلال الحرب شريحة تُعرف بـ“تجار الحرب”، عملت على احتكار إدخال السلع إلى القطاع عبر تنسيق مع الجانب الإسرائيلي مقابل أموال وخدمات، ما أدى إلى بيع السلع بأسعار خيالية، وبقاء الأموال داخل البنوك نتيجة اعتماد المعاملات الإلكترونية.
وكشف مصدر حكومي عن قضايا فساد مرتبطة بتسهيل إدخال البضائع، من بينها إقالة مسؤول رفيع بعد تلقيه تحويلات مالية مقابل وعود بتنسيق إدخال سلع. وفيما أفلس عشرات التجار الذين فقدوا أموالهم وبضائعهم تحت القصف، نجا آخرون بفضل احتفاظهم بجزء من مدخراتهم في البنوك.
وفي ظل هذا الواقع، تحولت غزة قسراً إلى اقتصاد رقمي، لا بفعل التخطيط أو التطور، بل نتيجة التدمير الواسع للقطاع المصرفي وغياب النقد، في مشهد يعكس قسوة الحرب أكثر مما يعكس أي تحول اقتصادي حقيقي.
