التهمت الحرب أطراف ضحايا وتركتهم يتحسسون "فقدهم".. "ما ذنبنا؟"!

صورة توضيحية
صورة توضيحية

غزة/ البوابة 24- ريم سويسي:

تغمض علا عينيها كلما مرّت قرب المرآة في بيت عائلة زوجها، الذي بات يؤويها بعدما دمّر الاحتلال شقتها خلال الحرب.

تتفادى الشابة التي أتمّت من عمرها 30 عامًا للتو، النظر إلى جسدها الجديد. "لم أعد أشبهني، خلال الحرب، كان الكل من حولي معرض لأن يصاب، أو تبتر له قدم أو ساق، لكنهم نجوا، صارت نظراتهم اليوم لي مختلفة" تقول لـ"البوابة 24".

تبكي علا، كلما فكّرت بنظرات زوجها لساقها المبتورة، وتضيف: "يخاف من المنظر، ويشيح بوجهه عني كل مرة. صرتُ أخشى أن يتزوج بأخرى، وهنا لا أعرف ماذا يمكن أن يحدث لي".

انتهت الحرب، واستيقظ كل من كان تحت وطأة ذلك الكابوس. كلٌ التفت إلى همّه وفقده، وبدأ ذوو البتر بتحسس أطرافهم التي أكلتها النيران دون أن تعطيهم أي فرصةٍ للنجاة.

لا تتوقف علا (التي اكتفت بذكر اسمها الأول) عن البكاء، وقد انعزلت في زاويةٍ وحدها طوال الوقت، لا تستطيع فعل شيء بدون عكّازٍ يدوي صنعه له زوجها من خشبة قديمة. تنظر إليها حماتها بنصف عينٍ وتسألها بامتعاض ما لو كانت ستبقى على هذه الحال "لا شغلة ولا مشغلة". تتساءل بحرقة: "ما ذنبي كي أعيش بهذه الصورة بقية عمري؟".

وتزيد: "أشعر بأن روحي التي بترت، أنا لا أخرج من البيت بالمطلق، وترعبني نظرات الشفقة من المحيطين بي.. هل ستلاحقني إلى الأبد؟".

بات صعبًا على علا القيام بأي مهمة، "وحتى الصلاة أؤديها على كرسي" تقول، مبديةً أملًا كبيرًا في الحصول على طرف صناعي، يساعدها على الوقوف والمشي والحركة.

علا أم لطفلين، لكنها تعترف "أقصر كثيرًا في حقيهما"، وتكمل: "أنا وكأنني في عالمٍ آخر، أغيب عن كل ما يحيط بي، وأسرح إلى حيث كنت أتنقل في بيتي كالأميرة، وأرتدي أحلى فستان. إلى حيث كنت أحمل طفلي الصغير وأتمشى به في الحديقة المجاورة. هذا كله صار من الماضي، ولا أعرف ما يخبّئه المستقبل لي حتى اللحظة".

وتكمل: "مسألة زواج زوجي باتت قريبة. أشعر بذلك، وأكذّب تعاطفه ووعوده. أنا أعرف ذلك"، مضيفةً وقد قررت أن تنهي الحوار: "لو كان العكس هو الذي حدث، لو كان هو الذي فقد طرفه، بالتأكيد لما شعر بأي خوف من أن أتركه، لماذا إذن يتركني لمخاوفي، ويغرقني في هذا الشعور؟".

حُرمت الجمباز!

في حكايةٍ أخرى، حرم "البتر" الطفل أحمد أبو شرخ (8 سنوات) من ممارسة رياضته المفضلة "الجمباز".

بُترت يد أحمد بينما كان يسير برفقة والده في يومٍ من أيام الإبادة قرب شاطئ البحر. "كنا نضحك، وكان والدي يلقي بعض الحصى إلى مياه الشاطئ. فجأة حدث انفجار، وآخر ما أذكره قبل أن يُغمى علي، وجه أبي وهو يصرخ: إيد الولد".

استيقظ أحمد في المستشفى، ليكتشف بأنه بات بيدٍ واحدة، يُمنى فقط، يقول والده: "طفلي منذ تلك اللحظة يصف نفسه بالمعاق، وقد أحجم عن فعل أي شيء في حياته! لا شيء حرفيًا، بات غارقًا رغم دعمنا الشديد له بفكرة أنه عاجز- هكذا سمع مسنًا يقول عن أحد مبتوري الحرب في غرفة الشفاء".

يشرح أحمد معاناته في تفاصيل يومه -حتى الصغيرة منها- ويقول: "أعاني في ارتداء ملابسي، وفي النوم، وفي الذهاب للمرحاض. لا أجد نفسي متوازنًا بالمطلق، وفي الليل يبدأ الألم، فلا مسكنات متوفرة ولا حتى أطراف اصطناعية".

لم يكن أحمد يلتفت كثيرًا لتلك التفاصيل تحت النار، لكنه يصف بدقة ما حدث بعد الهدنة: "كان الناس من قبل كل واحد في همه، لكن الآن كل الأنظار تتجه نحوي. كلهم يقولون إنني صرت عاجزًا، وحتى أصدقائي عندما يتحدثون إلي لا ينظرون إلى وجهي، بل إلى يدي المبتورة".

يتساءل ببراءة: "كيف لي أن أكمل حياتي بلا يد؟ ما ذنبي في هذه الإعاقة؟ وكيف سيتقبلني المجتمع هكذا؟".

ويذهب إلى أبعد من ذلك عندما توجه لوالده بسؤالٍ جعله يبكي: "بابا، شو ممكن يشتغل اللي إيده مقطوعة بس يكبر؟".

من سيقبل؟

نفس الأسئلة الافتراضية، يسألها لنفسه يوميًا شعبان أحمد (27 عامًا): "كيف سأعود لعملي ككهربائي منازل؟ كيف سأمارس هوايتي بلعب الكرة مع أصدقائي في ملعب الحي؟ كيف سأساعد أبي في إعادة إعمار بيتنا؟".

يصمت لوقت، ثم يكمل وقد اغرورقت عينيه بالدموع: "من ستقبل الزواج من شاب مبتور الساقين؟ وعلى كرسي متحرك؟".

تلف التحديات عنق شعبان، وتحاصره نظرات الشفقة، لا سيما تلك الملامح التي تتغير إذا ما عرف السائل عن وضعه، بأن بتره من فوق الركبة.

يقول: "أعاني صعوبة كبيرة في الحركة، خاصة في الذهاب إلى المرحاض، فأنا في الليل أحتاج إلى من يدفع كرسي ناحية المرحاض"، متابعًا بخجل شديد: "لا اسمح لأحد أن يدخل المرحاض معي، وبرغم الصعوبة الكبيرة في الانتقال من الكرسي إلى المرحاض نفسه كون الحمام ليس موائمًا لذوي الإعاقة، إلا أنني لا يمكن أن أسمح لنفسي بالإثقال على الآخرين أكثر".

نعم، يرى الشاب نفسه ثقيلًا على أهله، منذ صحى من إغماءته بعدما قصف بيت جيرانه في مخيم جباليا للاجئين الفلسطينيين، شمالي قطاع غزة، فوجد نفسه مبتور الساقين في آنٍ معًا.

ولا تقف فصول المعاناة هنا، بل يزيدها ما يعانيه ذوو البتر، في ظل منظومة صحية متهالكة، نتيجة عدم توفر الرعاية الصحية اللازمة لهذه الفئة من المجتمع.

"مشاعر حيادية"!

ووفقًا لوزارة الصحة بغزة، فإن أعداد حالات بتر الأطراف ارتفعت إلى أكثر من 10000 في مختلف محافظات القطاع، منذ بدء العدوان الإسرائيلي، وشملت أكثر من 4000 طفل.

وحسب أحدث إحصائية لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا"، فإن عشرة أطفال على الأقل، كانوا يفقدون أحد أطرافهم يوميًا في غزة جراء العدوان الذي بدأ في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي.

وما زال البتر يهدد الكثيرين من الجرحى، نتيجة إصابتهم بالتهابات شديدة، وعدم تعافي المنظومة الصحية، ونفاد المعدات الطبية.

وحول الآثار النفسية لبتر أطراف الإنسان، أو أحدها، يعلق الأخصائي النفسي والاجتماعي حماد عاشور بالقول: "يعاني المبتور من ضغف الثقة بالنفس، والحساسية الزائدة، وينقسم المبتورون هنا لنوعين: الأول يستخدم البتر كشماعة لتبرير الفشل، والثاني يرى في هذا البتر سببًا لتحقيق إنجازات كبيرة، وتحديًا للظرف القاهر الذي مر به".

وفي سؤال حول تأثير نظرة المجتمع إلى المبتور، يجيب: "تؤثر نظرة المجتمع بكل تأكيد على نفسية المبتور خاصة في الأسابيع الأولى للعملية، فيصبح شديد التدقيق في لغة جسد الشخص الذي يتعامل معه".

وينصح عاشور بضرورة دمج هذه الفئة داخل المجتمع، عبر برامج توعوية، وبأقصى سرعة، للاستفادة من خبراتهم في كافة المجالات، وجعلهم يقودون من هم أقل منهم خبرةً فيها، مشددًا على أهمية أن تكون مشاعر الناس حيادية تجاه ذوي البتر، "فلا نشعره بالنقص من خلال ردة الفعل تجاهه، سواء بالتعاطف أو النبذ".

البوابة 24