عمرٌ من "الشقاء" طحنتهُ الحرب بغزّة.. مسنّون يُعانقون حجارة بيوتهم ويبكون!

مسنّون يُعانقون حجارة بيوتهم ويبكون!
مسنّون يُعانقون حجارة بيوتهم ويبكون!

غزة/ البوابة 24- رشا أبو جلال:

وقف الحاج أبو فؤاد حميد (67 عامًا) على أطلال منزله المدمر في حي الشجاعية شرقي مدينة غزة، متكئًا على عصاه الخشبية، يحدّق في الركام بصمتٍ ثقيل.

كانت عيناه الغائرتان تجولان بين الحجارة المتناثرة، تبحثان عن شيءٍ مألوف، عن أثرٍ من حياته السابقة، عن أي شيءٍ يثبت أن هذا الخراب كان يومًا ما بيتًا.

انحنى حميد بصعوبة، التقط حجرًا صغيرًا، مرر أصابعه المرتجفة عليه، وكأنه يتحسس جدرانه القديمة. قال بصوت بالكاد يسمع لـ"البوابة 24": "هنا.. هنا كنت أجلس بعد صلاة الفجر أشرب الشاي وأراقب الشارع.. هنا كانت تجلس أم فؤاد تحيك ملابس الأحفاد، هنا كنا.."، ثم توقفت كلماته، كأنها اختنقت تحت أنقاض البيت كما اختنقت أحلامه.

رفع رأسه ونظر إلى الفراغ، وكأنه يحدّق في أشباح الماضي. كانت هناك بناية من أربعة طوابق، بناها طوبة طوبة من شقاء عمره. لم يكن مجرد بيت، بل كان حصاد سنوات من العمل في التجارة، مأوىً جمع أبناءه الثلاثة تحت سقفه، وحضنًا آمنًا لحفيداته اللواتي كنّ يملأن الممرات بالضحك والركض.

"ثلاثون عامًا كلفتني لبناء هذا البيت.. ثلاثون عامًا من العمل والتعب وجني المال.. واليوم لم يبقَ لي حتى باب أغلقه على نفسي.. كل شيء اختفى في لحظة، شقاء العمر صار هباءً، كأنني لم أكن، كأنني لم أتعب، كأنني لم أملك شيئاً في يوم من الأيام"، يضيف حميد.

اليوم، لم يبقَ له سوى خيمة مهترئة على أطراف حي الشجاعية، وسط مئات الخيام الأخرى. يجلس على قطعة قماش فوق الرمال، وقدماه العاريتان ترتجفان فوق التراب، خزانته التي كانت تعج بالملابس الأنيقة تحولت إلى صندوقٍ محطم، ممتلئ بالثياب الممزقة، حتى الحذاء الطبي الذي كان يخفف عنه آلام ركبتيه، فقده تحت الركام، ولم يجد غير حذاء بلاستيكي مهترئ بالكاد يحمي قدميه.. في عينيه دمعة، لكنه لا يبكي.. "فالرجال لا يبكون"، هكذا اعتاد أن يقول.

في شيخوختهم، حيث كان ينبغي أن تكون الأيام الأخيرة واحةً من السكينة، وجدوا أنفسهم يعبرون دروب الفقد والخذلان. رجالٌ ونساءٌ أفنوا أعمارهم وهم يرفعون لبنةً فوق لبنة، يكدّون تحت شمسٍ حارقة وأحلامٍ لا تلين، ليبنوا بيوتًا تحضن أبناءهم وأحفادهم، وتحميهم من غدر الزمان. لم يطلبوا الكثير، فقط أن يشيخوا بين جدرانٍ شيدوها بأيديهم، أن يجلسوا على شرفاتهم، يتأملون الغروب دون أن يختنقوا بالحسرة.

لكن الحرب، بقسوتها التي لا تعرف الرحمة، سحقت أعوامهم في لحظةٍ واحدة. تطايرت حجارة البيوت التي أفنوا أعمارهم في بنائها، وتناثر معها العمر نفسه، فلم يبقَ لهم سوى خيامٍ باردةٍ، وسنين ضاعت هباءً. لم يخسروا جدرانًا وأثاثًا فقط، بل فقدوا أعز ما يملكه الإنسان في شيخوخته: الإحساس بالأمان، الاستقرار، والكرامة.

حين تفرق العمر بين مراكز إيواء

كانت الحاجة سامية مرتجى (72 عامًا) تحدّق ببصرها الضعيف في ألبوم صور احتفظت به قبل مغادرتها منزلها في حي الرمال وسط مدينة غزة في أكتوبر 2023م، عندما اندلعت الحرب المجنونة. كان هذا الألبوم آخر ما تبقى من ذكرى لتلك السيدة في منزلها المدمر.

مررت يدها المرتجفة على صدرها، حيث اعتادت أن تضع مفتاح منزلها معلقًا بسلسلة فضية. اليوم، لا شقة، ولا باب، ولا جدران، فقط العراء. تمتمت بصوت خافت: "يا رب.. أي عمرٍ هذا الذي أفنيته؟ وأي نهاية هذه التي لم أتخيلها حتى في أسوأ كوابيسي؟".

قبل خمس وأربعين سنة، فقدت الحاجة مرتجى زوجها، ووجدت نفسها وحيدةً مع أطفالٍ صغار، بلا معيل سوى نفسها. كانت تعمل معلمةً في مدارس وكالة الغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطيني (أونروا)، تقضي يومها متنقلة بين الفصول، تعلم الأطفال القراءة والحساب، بينما في المساء، تجلس تحسب راتبها، تقسمه بين حاجات أبنائها وبين أحلامها ببناء بيت يلم شملهم.

"كنت أحلم ببيتٍ كبير، يجمعني بأبنائي وأحفادي، لا أريدهم أن يتفرقوا، أردتهم قريبين مني.. ظننت أنني حين أتقدم في العمر، سأجلس في شرفتي أراقبهم يلعبون في الساحة.. لكن الحرب جاءت، ومزقت الحلم كما مزقت هذا الركام"، قالت الحاجة سامية لـ(البوابة 24).

بنت العمارة المكونة من ثلاثة طوابق حجرًا حجرًا مع كل ترقية في عملها، كانت تضع قرشًا فوق قرش، حتى وقفت العمارة أخيرًا، شاهدةً على سنوات من الكد والتعب. سكنت الطابق الأول، بينما تزوج أبناؤها وسكنوا فوقها. اعتادت أن تصعد السلالم كل صباح لتمر على أحفادها، توقظهم للمدرسة، وتحضر لهم الفطور بيدها.

لكن مع قرع طبول الحرب، انهار كل شيء بلحظة.

اليوم، تعيش الحاجة سامية ضيفةً لدى أقارب لها، بينما تشتّت أبناؤها في أماكن مختلفة، بعضهم لجأ إلى مدارس الإيواء، وآخرون إلى بيوت أقارب بعيدين. لم تعد تعرف عنهم شيئًا إلا عبر الهاتف.

"عشت عمري كله أحارب الشتات، واليوم وجدته يطاردني من جديد.. كنت أخاف أن أموت وأتركهم وحدهم، لكن يبدو أنني سأموت وأنا وحدي"، تضيف بصوتٍ مرتجف.

وتابعت: "لو كنت صغيرة، لقلت سأبدأ من جديد.. لكنني في السبعين من عمري، ولا أملك وقتًا لأعيد البناء، سأرحل قبل أن أرى عائلتي تجتمع تحت سقفٍ واحدٍ مرة أخرى".

حين يرتفع الضغط ويسقط العمر

جلس الحاج عبد الكريم الشريف (61 عامًا) على كرسي بلاستيكي داخل صيدلية صغيرة في حي النصر بمدينة غزة، واضعًا يده على الطاولة بينما يلف الصيدلاني جهاز الضغط حول ذراعه الهزيلة. كان ينظر إلى الأرض بصمت، وعيناه غائرتان خلف تجاعيد حفرتها السنوات والتعب. ابنه سامر، الذي كان يجلس بجانبه، راح يراقب الشاشة الرقمية التي أصدرت صفيرًا خافتًا، قبل أن يظهر الرقم المرتفع من جديد.

تمتم الصيدلاني بأسف: "الضغط ما زال عاليًا يا حاج.. لا بد أن ترتاح، التوتر يزيد الأمر سوءًا".

أدار الحاج عبد الكريم وجهه بعيدًا، زفر ببطء، ثم همس بصوت بالكاد يُسمع: "وكيف يرتاح قلبي، وقد سقط العمر تحت الركام؟".

لم يكن الحاج الشريف رجلًا غنيًا، لكنه كان صلبًا. أمضى عقودًا من حياته عاملًا في دولة الاحتلال، يخرج قبل الفجر ويعود بعد أيام، يده ممتلئة بالشقوق، ووجهه مغطى بغبار الإسمنت والحجارة. كان يحمل الأحمال الثقيلة في ورش البناء، وكل قرشٍ كسبه، كان يضعه جانبًا لحلمه الكبير: بناء بيتٍ يؤوي أبناءه وأحفاده.

"كنت أحمل الطوب على ظهري، وأقول: يومًا ما، سأضع طوبًا فوق طوبٍ في بيتي أنا.. وها قد بنيته، أربعة طوابق، شقاء عمرٍ بأكمله.. ثم في لحظة، انتهى كل شيء"، يقول بحسرة.

عندما رأى منزله مدمرًا، كأن قلبه انخلع من مكانه. لم يبكِ حينها، لكنه شعر بألم حاد في صدره، وبضربات قلبه تتسارع. منذ ذلك اليوم، أصبح ضغط دمه لا يهدأ. كل مرة يتذكر فيها غرفته، شرفته، الأبواب التي كان يغلقها بيده، السلالم التي كان يسمع وقع أقدام أحفاده عليها.. يرتفع الضغط أكثر، وكأن قلبه يرفض أن يتقبل الفقد.

ويضيف: "لم أطلب الكثير من الدنيا.. فقط أن أمضي أيامي الأخيرة في بيتي، بين أبنائي.. لكن حتى هذا سُلب مني".

اليوم، يعيش مع ابنه سامر في غرفة صغيرة داخل بيت مستأجر. لم يكن الأمر سهلًا على سامر أن يرى والده، الذي كان يومًا قويًا شامخًا، يتحول إلى رجل ضعيف، يطوي الأيام في حسرةٍ صامتة.

"أحاول أن أعوضه.. أبحث له عن أي شيء يريحه، اشتريت له مقعدًا ليجلس في الشرفة ويرى الناس في الشارع، حاولت أن أحضر له فنجان قهوة يشبه ذاك الذي كان يشربه على شرفته.. لكن كيف أعيد له عمره الذي انهار تحت القصف؟".

أحيانًا، يأخذ سامر والده إلى البحر، يجلسان معًا بصمت، يراقبان الموج، علّه يهدّئ ذلك الغليان في داخله. وأحيانًا، يمشيان بين ركام الحي القديم، يبحث الحاج الشريف بين الأنقاض عن شيء مألوف، عن بلاطة لم تنكسر، عن نافذة لم تتحطم، عن ذكرى صامدة في وجه الحرب، لكنه في كل مرة يعود، يعود والضغط مرتفعٌ أكثر.

تداعيات نفسية خطيرة

ويحذر أستاذ علم النفس الاجتماعي، د.درداح الشاعر، من التداعيات النفسية الخطيرة التي يتعرض لها كبار السن بعد فقدان منازلهم التي أفنوا أعمارهم في بنائها، مؤكدًا أن ذلك يمثل صدمة نفسية عميقة تهدد إحساسهم بالأمان والاستقرار.

وقال الشاعر لـ"البوابة 24": "المنزل بالنسبة للمسنين ليس مجرد مأوى، بل هو حصيلة عمرٍ كامل وملاذهم الأخير في سنوات الشيخوخة. تدمير منازلهم يفقدهم الشعور بالاستقرار والكرامة، ما يؤدي إلى اضطرابات نفسية خطيرة مثل الاكتئاب والقلق والعزلة الاجتماعية، وقد يتسبب في تدهور حالتهم الصحية والجسدية".

وأكد الشاعر على ضرورة توفير الدعم النفسي والاجتماعي للمسنين المتضررين، مشددًا على أهمية تعزيز التواصل الأسري وإظهار التفهم والصبر تجاههم، بالإضافة إلى توفير احتياجاتهم الأساسية من سكن ورعاية صحية.

كما دعا المؤسسات المختصة إلى إطلاق برامج دعم نفسي، وإنشاء مراكز إيواء مؤقتة تراعي احتياجات المسنين، وتقديم مساعدات مالية عاجلة لإعانتهم على إعادة بناء حياتهم.

وختم الشاعر حديثه بالقول: "رعاية المسنين الذين فقدوا منازلهم ليست مجرد مسؤولية اجتماعية، بل هي واجب إنساني وأخلاقي يجب أن يحظى بأولوية قصوى، فهم أفنوا حياتهم في بناء المجتمع، ولا يجوز أن يُتركوا لمواجهة الشيخوخة في العراء".

البوابة 24