سباق الذكاء الاصطناعي: تنسيق خفي أم سباق تسليحي جديد؟

بقلم: د. نهاد رفيق السكني

ظهر الذكاء الاصطناعي فجأة في واجهة المشهد العالمي، وبدأت الشركات من وادي السيليكون في أمريكا، مرورًا بعملاقة الصين، وصولًا إلى أوروبا وكندا، بإنتاج أنظمة ذكية شبيهة بالبشر، في توقيت يكاد يكون متزامنًا. هذا التزامن الغريب يطرح أسئلة منطقية:

- هل هناك تنسيق خفي؟

- هل الحكومات كانت تعمل بشكل متوازٍ على نفس الهدف؟

- وهل يشبه الأمر سباق تسليح كما حدث في الحرب الباردة؟

1. لماذا ظهر الذكاء الاصطناعي المتقدم في دول مختلفة في نفس الوقت؟ التفسير الأول أن ما حصل هو تطور متزامن وطبيعي نتيجة لتراكم معرفي مشترك. منذ بداية العقد الماضي، كانت الأبحاث في الذكاء الاصطناعي تنشر بشكل علني في المجلات والمؤتمرات الدولية.

كثير من هذه الأبحاث كانت تأتي من جامعات أمريكية، لكن سرعان ما التقطتها مختبرات صينية وأوروبية وبدأت ببنائها وتطويرها. الإنترنت والأكاديميا المفتوحة جعلا من هذا التقدم عملية "عالمية"، لا تحتكرها دولة واحدة.

2. هل يوجد تنسيق أم أنه سباق استراتيجي؟ الواقع أقرب إلى سباق تكنولوجي يشبه سباق الفضاء والتسلح. فكل دولة تدرك أن الأخرى تعمل على تطوير تقنيات قد تُحدث تغييرًا جذريًا في ميزان القوى. ولهذا، حتى دون تنسيق، يتحرك الجميع نحو نفس الهدف تقريبًا.

الصين أعلنت في 2017 عن خطتها لأن تصبح القوة العالمية الأولى في الذكاء الاصطناعي بحلول 2030. في المقابل، الولايات المتحدة بدأت تضخ تمويلًا ضخمًا في مشاريع AI من خلال وزارة الدفاع (DARPA) وغيرها من الهيئات.

3. كيف تستخدم الدول الذكاء الاصطناعي كسلاح؟ الذكاء الاصطناعي لم يعد مجرد أداة للترفيه أو الاقتصاد، بل أصبح يُنظر إليه كسلاح استراتيجي. يمكن استخدامه في: - توجيه الطائرات دون طيار. - تحليل البيانات الضخمة لأغراض استخباراتية. - التلاعب بالمعلومات والرأي العام من خلال الخوارزميات. - إنشاء أسلحة سيبرانية هجومية تعتمد على التعلم الآلي. لذلك، التقدم في الذكاء الاصطناعي يوازي امتلاك سلاح نووي من نوع جديد: غير مرئي، لكنه شديد الفاعلية.

4. هل هناك تجسس وتبادل خفي للمعلومات؟ نعم، هناك أدلة على تجسس صناعي وهجرة للخبرات بين الدول. الصين مثلاً استثمرت بكثافة في جذب علماء الذكاء الاصطناعي من أمريكا وكندا. كما اتُّهِمت بسرقة تقنيات عبر الإنترنت وشبكات الجامعات. لكن التنسيق الخفي لا يعني التواطؤ، بل هو أشبه بـ"المراقبة المتبادلة" التي تدفع كل طرف للإسراع، تحسبًا لتقدم الآخر.

5. الجدول الزمني: تطور الذكاء الاصطناعي في أمريكا والصين (2012 – 2024). 2012: شهد العالم انطلاقة كبرى مع ظهور نموذج "AlexNet" في كندا وأمريكا، وهو ما اعتُبر الشرارة الأولى لثورة "التعلّم العميق" التي دفعت العديد من الدول لإعادة تقييم مستقبل الذكاء الاصطناعي. 2015: تم الإعلان عن تأسيس "OpenAI" في الولايات المتحدة، بمشاركة أسماء كبيرة من رواد التكنولوجيا مثل إيلون ماسك، في محاولة لضمان تطور الذكاء الاصطناعي بشكل آمن ومفتوح. في المقابل، بدأت الصين بوضع اللبنات الأولى لمبادرة وطنية تهدف إلى ريادة الذكاء الاصطناعي.

2017: أطلقت وكالة DARPA الأمريكية برامج مكثفة لتطوير أنظمة ذكاء اصطناعي لأغراض عسكرية واستخباراتية. في نفس العام، أعلنت الصين عن "خطة 2030" لتصبح الدولة الرائدة عالميًا في هذا المجال.

2018: قدّمت جوجل للعالم نظام "Google Duplex" الذي يمكنه إجراء مكالمات هاتفية شبيهة بالبشر، مما أحدث صدمة تكنولوجية.

الصين أنشأت "مركز الابتكار للذكاء الاصطناعي" في بكين كأداة استراتيجية لمواكبة السباق.

2020: أطلقت OpenAI نموذج "GPT-3"، الذي أدهش العالم بقدرته على إنتاج نصوص بشرية الطابع. في الصين، ظهرت نماذج منافسة مثل "ERNIE" من شركة Baidu، مدعومة من الدولة.

2022: بدأت النماذج الذكية تُستخدم تجاريًا في مجالات مثل خدمة العملاء والكتابة الصحفية. الصين أعلنت عن تطويرات في استخدام الذكاء الاصطناعي العسكري، وخاصة في مجالات المراقبة والطائرات دون طيار.

2023: كان عام الذروة، مع إطلاق ChatGPT رسميًا في نسخته القابلة للاستخدام العام، وظهور "Ernie Bot" الصيني كمنافس مباشر في السوق.

2024: تشهد الساحة بروز شركات جديدة غير معروفة سابقًا، لكنها مدعومة من حكومات أو جهات سيادية، مع بروز تحالفات صينية مع روسيا وكوريا الشمالية في مشاريع ذكاء اصطناعي مشترك الخلاصة: هل نحن في حرب ذكاء اصطناعي؟ الإجابة المختصرة: نعم، ولكنها حرب صامتة وناعمة، حيث تُستخدم الخوارزميات بدلًا من القنابل، والمعلومة بدلًا من الجيوش.

العالم لا يعيش فقط ثورة تقنية، بل يعيش إعادة تشكيل لموازين القوى، وقلبًا لمفاهيم السيادة والهيمنة. هذا التزامن الغريب بين مشاريع الدول ليس صدفة، بل هو نتيجة استشعار كل طرف لخطر الآخر. وما نراه اليوم من أنظمة ذكية شبيهة بالبشر، ما هو إلا رأس جبل الجليد في معركة أكبر بكثير مما يبدو.

البوابة 24