أثارت الفوضى العارمة التي اندلعت خلال افتتاح مراكز توزيع المساعدات في قطاع غزة يوم أمس تساؤلات جدية حول مدى فعالية خطة توزيع الإغاثة الإنسانية الجديدة، بل والأهم من ذلك، طرحت علامات استفهام كبرى حول الجهة الحقيقية التي تموّل هذه الخطة.
وفي الوقت الذي تصر فيه الجهات المنفذة على الغموض، فإن التصريحات المتناقضة والتقارير الصحفية تكشف عن شبكة معقدة من العلاقات والأدوار التي يكتنفها الكثير من الغموض والمناورة.
تمويل غامض وتصريحات متضاربة
وألقت تصريحات السفير الأمريكي في إسرائيل بظلال من الشكوك، حين قال إن عدداً من الجهات قد تعهدت بالمساهمة في تمويل المساعدات، لكنها لا ترغب في الإفصاح عن هويتها في الوقت الحالي، الأمر الذي زاد الغموض.
اقرأ أيضًا:
- اتهامات بالتستر الاستخباراتي.. تفاصيل صادمة تكشف عن شركة توزيع المساعدات في غزة
- اتهامات خطيرة.. الأمم المتحدة تفضح آلية مشبوهة لتوزيع المساعدات في غزة
أما مؤسسة "GHF" – المعروفة بمشاركتها في توزيع المساعدات – فأعلنت أن "دولة أجنبية" قد تعهدت بتقديم 100 مليون دولار لدعم أنشطتها في غزة، لكنها بدورها رفضت الكشف عن اسم هذه الدولة.
ودفع هذا التكتم بعدد من الشخصيات السياسية الإسرائيلية إلى الإدلاء بتصريحات مثيرة للجدل، حيث زعم زعيم المعارضة يائير لابيد أن إسرائيل هي الممول الحقيقي للمساعدات، مشيراً إلى أن تل أبيب قد تكون وراء إنشاء شركتين وهميتين – واحدة في سويسرا وأخرى في الولايات المتحدة – من أجل تحويل الأموال، وإعادة توجيهها إلى غزة تحت غطاء إنساني.
وأضاف أن الأموال التي يمول بها دافعو الضرائب الإسرائيليون قد تُستخدم فعلياً لدعم هذه العمليات دون علم الجمهور.
ورداً على تلك الاتهامات، نفى مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي هذه المزاعم بشكل قاطع، لكنه لم يدلي بأي توضيحات إضافية، الأمر الذي أبقى الباب مفتوحًا أمام مزيد من التكهنات.
وفي المساء، دخل أفيغدور ليبرمان على خط التصريحات، مشيراً إلى أن "الموساد" هو الجهة التي تدير التمويل، لكن هذه التصريحات قوبلت أيضًا بالنفي من مكتب رئيس الوزراء.
فوضى التوزيع الميداني
على أرض الواقع، شهد مركز التوزيع في حي تل السلطان في رفح جنوب القطاع انهياراً واضحاً في السيطرة، حيث تدفقت أعداد كبيرة من المواطنين الفلسطينيين على الموقع، مما أدى إلى تدافع وفوضى أجبرت طاقم شركة "SRS" الأميركية المسؤولة عن التوزيع على الانسحاب.
وبينما قالت مصادر إسرائيلية إن المحتجين لم ينهبوا الموقع، فإن تقارير أخرى من داخل القطاع، بالإضافة إلى شهادات موظفين من الشركة، أكدت أن ما تبقى من المساعدات قد نهب بالكامل.
وفي أول تعليق له على الواقعة، قال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إن ما حدث كان فقداناً مؤقتاً للسيطرة، لكننا استعدنا زمام الأمور سريعاً، مشيراً إلى أن هدف العملية هو منع حماس من استغلال المساعدات واستخدامها كورقة ضغط أو أداة في النزاع.
أما وزير المالية الإسرائيلي، بتسلئيل سموتريتش، فاعتبر افتتاح هذه المراكز بمثابة "نقطة تحول في الحرب على حماس"، وقال إن هذه الخطوة سوف تسهم في "تفكيك حكم الحركة بشكل تدريجي".
في المقابل، شجبت حركة حماس الخطة بأكملها، واتهمت إسرائيل بتحويل المسار الإنساني إلى أداة أمنية تهدف للسيطرة والضغط السياسي، ووصفت عمليات إطلاق النار على مدنيين جائعين داخل المراكز بأنها دليل قاطع على "فشل المشروع"، مشيرة إلى أن التنفيذ خارج مظلة الأمم المتحدة يهدف لخدمة "أجندة الاحتلال"، كما وصفت المبادرة بأنها "مهينة" وتُستخدم كأداة للعقاب الجماعي.
شبكة معقدة
وكشفت التحقيقات التي أجريت داخل إسرائيل وخارجها أن الخطة لا يمكن اعتبارها أميركية بالكامل كما تم الترويج لها، وفقًا لما ذكرته صحيفة "واشنطن بوست"، فإن التنسيق بدأ فعلياً منذ أواخر عام 2023 تحت إشراف ما يعرف بوحدة "منسق أعمال الحكومة في المناطق"، وبقيادة وزير الأمن حينها، يوآف غالانت.
كما أفادت وثيقة داخلية تابعة لمؤسسة "GHF" – حصلت عليها الصحيفة – أن هناك خطة علاقات عامة ممنهجة للتأثير على الرأي العام الغربي، تتضمن التواصل مع مؤثرين عرب، وتجهيز خطاب إعلامي موحد لتبرير تنفيذ الخطة، وطرح سردية إنسانية تغطي الأهداف الفعلية للعملية.
أما صحيفة "نيويورك تايمز"، فكشفت عن اجتماعات سرية جرت منذ عام ونصف ضمت رجال أعمال ومستشارين عسكريين إسرائيليين ضمن مجموعة أطلقت على نفسها اسم "منتدى مكفيه يسرائيل"، حيث اجتمع المشاركون في ديسمبر 2023 لمناقشة توزيع المساعدات، وكان بينهم شخصيات بارزة مثل مايكل أيزنبرغ – أحد أهم مستثمري رأس المال المخاطر في إسرائيل – ويوتام كوهين، نجل اللواء المتقاعد غيرشون كوهين، الذي أصبح لاحقاً مساعداً للعميد رومان غوفمان، ثم تطور ليصبح سكرتيراً عسكرياً لنتنياهو.
الغريب أن كوهين نشر في مجلة مركز "دادو" للفكر العسكري مقالاً في يونيو الماضي قدّم فيه رؤيته لتوزيع المساعدات – وتطابقت تلك الرؤية بشكل كبير مع الخطة الحالية.
اختيار شركة SRS
من جهة أخرى، فجرت صحيفة "هآرتس" مفاجأة أخرى حين كشفت أن اختيار شركة "SRS" الأميركية لتنفيذ عملية التوزيع تم بشكل سري، من دون إجراء أي مناقصة قانونية أو حتى تمرير القرار عبر القنوات الرسمية في "متفاش"، وهي الهيئة المعنية بإدخال المساعدات لغزة.
وقد تم استبعاد الجيش الإسرائيلي ووزارة الأمن من هذا المسار بالكامل، وبدلاً من ذلك، تولى غوفمان وفريقه من الضباط المتقاعدين ورجال الأعمال – فيما بات يعرف بـ "فريق غوفمان" – مسؤولية اختيار الشركة والتفاوض معها.
وفي تحقيق موسع لموقع "شومريم" نشر عبر "واي نت"، تم الكشف أن مؤسسي منظمة "GHF" السويسرية – وهم أنفسهم الذين أسسوا جمعية بنفس الاسم في ولاية ديلاوير الأميركية – قرروا مؤخرًا إغلاق الكيانين بشكل نهائي، والانتقال للعمل من خلال كيان ثالث تم تسجيله في الولايات المتحدة منذ فبراير 2025، على أن يتولى استقبال التبرعات مستقبلاً رغم أن هوية الجهات المانحة لا تزال طي الكتمان.