غزة/ البوابة 24- دعاء شاهين:
في ورشة بدائية غربي مدينة دير البلح، وسط قطاع غزة، ارتفعت أعمدة الدخان، وتصاعدت حرارة اللهب داخل براميل معدنية سوداء ملآى بنفايات بلاستيكية تحترق.
العامل (خ.أ) الذي فضل ذكر اسمه بالرموز خشية الاستهداف، كان يراقب خروج قطرات الوقود الصناعي في برميلٍ آخر، بينما يتولى أربعة عمال غيره مهام مختلفة داخل الورشة، ضمن مراحل تكرير البلاستيك لإنتاج "السولار الصناعي" المحلي بغزة.
وانتشرت مع طول أمد الحرب، واستمرارها، منذ السابع من أكتوبر/ تشرين أول 2023م، وتحت وطأة الحصار الخانق في قطاع غزة، ورش لتكرير البلاستيك، وتصنيع "السولار الصناعي"، تعتمد في عملها على حرق النفايات الصلبة والبلاستيكية.
وبرغم كونها "حلًا بديلًا" ومعقول الثمن، إلا أنها لا تمر دون تكلفة يدفع ثمنها "الغزّيون" من صحتهم وبيئتهم المتضررة أساسًا جراء القصف المستمر.
في هذا التقرير لا تدين "البوابة 24" الحلول البديلة، المنجدة، في ظل انعدام البدائل، واضطرار الغزّيين لأي طريق يدلهم على النجاة، بل تلقي الضوء على ضرورة تدارك مخاطرها بمجرد انتهاء الحرب، ضمن عملية الإعمار للمدينة، وللصحة والبيئة أيضًا.
قصة الدخان الأسود
نعود إلى (خ.أ)، الذي يقول بصوتٍ متقطع متعب: " نعيش بين النار والدخان، هذه المهنة أصبحت مصدر دخلنا لإعالة أسرنا، ولا نستطيع أبدًا التفكير بتركها مهما كانت الظروف".
ويعدّ الفكرة بديلًا مجديًا وسط الحصار، "ففي كل يوم يصطف أمام الورشة طوابير من أصحاب المركبات التي تسير على السولار الصناعي، ومواطنين يستخدمون البوابير البدائية بديلًا عن الغاز أو إشعال الحطب"، مردفًا بالقول: "نحن نؤدي خدمة عظيمة، ونساهم في حل أزمة كبيرة تواجه السكان بغزة".
يعتمد (خ.أ)، كغيره من أصحاب ورش التكرير العشوائية، على تجميع نفايات البلاستيك، وخاصة الزجاجات الفارغة، والأكياس، وأنابيب وبراميل المياه السوداء المهترئة بعد فرزها وتقطيعها، ثم حرقها داخل أفران مغلقة تُعرف محليًا باسم "الفرن الحراري"، وهي عملية تتطلب مراقبة دقيقة خوفًا من الانفجار أو تسرب الغازات السامة.
ووفق قوله فإن "نصف طن من النفايات البلاستيكية ينتج يوميًا قرابة (350) لترًا من السولار الصناعي، يصل ثمن اللتر الواحد منه إلى 35 شيكلًا، "وهذا مناسب بالنسبة لوضعنا الحالي" يعقب، فيما يصل ثمن اللتر الواحد من السولار المستورد إلى 120 شيكلًا في السوق السوداء، "وهذا جنون".
الجيران.. ضحايا بلا خيار
وسط هذا كله، وبين بيوت الجيران، يمكن بكل بساطة أن ترى: طفلًا يسعل بشدة، امرأة تمسح دموعها المتصاعدة من حرارة الدخان، ورجلًا يحمل دلو ماء ليرش الأرض على أمل أن يهدّئ من الغبار والرماد المتطاير.
تقول سميحة الغرقان المكناة بأم المجد لـ"البوابة 24": "السكان هنا لا يهربون من قنابل، بل من حريق يومي صامت اسمه "التكرير العشوائي"، ينهش الهواء والأجساد معًا".
وتروي السيدة الخمسينية: "كل ليلة يمتلئ المنزل بالدخان الأسود الناتج عن حرق النفايات البلاستيكية، مما يدفعنا لإغلاق النوافذ (..) طفلتي الصغيرة نورسين (13 عامًا)، كان تعاني سابقًا من حساسية بالجهاز التنفسي، ومع تصاعد الدخان الأسود المحروق أصيبت بمرض الـ "الربو"، وفق تشخيص الأطباء لحالتها المرضية".
وتعبر الغرقان عن امتعاضها من إنشاء ورشة قريبة من منطقتها السكنية، متابعةً: "لا رقابة ولا أحد يكترث. الأمر مؤرق وجميع الجيران متذمرون، وخائفون على أطفالهم وكبار السن والحوامل من الأدخنة السامة"، مردفةً بقهر: "نعرف أن الوضع استثنائي، وأن القطاع يتشبث بأي حلول بديلة، لكن هل يعقل أن ننجو من الموت بالصواريخ وتصيبنا الأمراض التي لا علاج لها؟".
أيضًا تخشى السيدة من استهداف الورشة ذات يوم، "وهذا غير مستبعد، فإسرائيل لا تريد لأي شيء أن يضخ الحياة في نبض غزة المتوقف" تختم.
وقد نفذ جيش الاحتلال الإسرائيلي الثلاثاء- 27 من الشهر الجاري، قصفًا جويًا ومدفعيًا كثيفًا على المناطق الشرقية لمدينة غزة وخان يونس، واستهدف مصنعًا للسولار، ذلك بعد ساعات من مجازر جديدة خلفت أكثر من 80 شهيدًا.
في الوقت ذاته، يرى أصحاب الورش -التي باتت منتشرة في كافة مناطق قطاع غزة- أنفسهم معلقين في منطقة رمادية. (خ.أ) لا ينكر الضرر الواقع على السكان والعمال في الورشة، لكنه يتساءل: "لو فتحوا المعابر، وجابوا سولار للناس، مين بيظل يشتغل بين البلاستيك المحروق؟ إحنا مش حابين نئذي حدا، إحنا ضحايا كمان".
الحلقة المفقودة: الغياب الرسمي
ودفعتنا شكاوى جيران الورش العشوائية، وتبريرات أصحابها، لطرح تساؤلات مشروعة أخذت بعين الاعتبار واقع الحرب والفراغ القانوني، الذي سمح بإقامة مثل هذه الورش بجانب الأحياء السكنية ومخيمات النزوح، وإلى أي مدى يمكن أن يؤثر ذلك على الصحة والبيئة كونهما العنصرين المتضررين بشكل مباشر وكبير؟
المهندس عاصم النبيه، المتحدث باسم بلدية غزة، قال لـ"البوابة 24" عبر مكالمة هاتفية: "البلدية تعمل في ظل ظروف استثنائية وصعبة للغاية فرضتها الحرب المستمرة على القطاع، ودورها في الوقت الراهن يقتصر على التوعية والإرشاد، في ظل العجز الكبير في الموارد والإمكانات".
وأوضح أن البلدية تركز جهودها حاليًا على توجيه المواطنين والعاملين في مجال تكرير الوقود، نحو الابتعاد عن المناطق السكنية المأهولة، خصوصًا مخيمات النزوح ومراكز الإيواء، مع توصيات بحصر العمل في المناطق المفتوحة قدر الإمكان، رغم ما تحمله تلك العمليات من أضرار بيئية وصحية جسيمة.
وأكد النبيه أن "التكرير" يجري بشكل عشوائي، وبدون تراخيص، "حيث ينتقل العاملون من منطقة إلى أخرى بسبب القصف المستمر وحالة النزوح المتواصلة، مما يجعل مراقبة هذه العمليات أو تنظيمها أمرًا بالغ الصعوبة".
وأشار المتحدث باسم البلدية إلى أن الحاجة الملحّة للوقود دفعت السكان إلى اللجوء للوقود "الصناعي" البديل، موضحًا أن معظم المركبات، خاصة القديمة منها، تعتمد على هذا الوقود للحركة، مما يجعل إيقاف التكرير دون وجود بدائل متوفرة "أزمة" بحد ذاتها.
وأضاف: "الحصار المفروض على القطاع، وإغلاق المعابر، ومنع دخول أي مصادر للطاقة، فاقم من الأزمة"، داعيًا المؤسسات الدولية إلى التدخل الفوري لإدخال الوقود اللازم لتشغيل المرافق الحيوية، وبالتالي الاستغناء عن الوقود الصناعي، بما يساهم في وقف عمليات التكرير العشوائي ويحمي البيئة وصحة السكان.
كارثة صحيّة وبيئبة
ويبدو أن ورش التكرير العشوائي قائمة طالما الحصار الإسرائيلي قائم، لكن ماذا عن الأبعاد الصحية والبيئية؟
يحذر الدكتور أحمد الربيعي، استشاري أمراض الباطنة والصدرية ورئيس قسم الباطنة في مجمع الشفاء الطبي بمدينة غزة، من المخاطر الجسيمة الناجمة عن عملية تكرير النفايات البلاستيكية العشوائي لإنتاج سولار صناعي في مناطق مكتظة بالنازحين داخل القطاع، واصفًا الأمر بـ"الكارثة البيئية والصحية".
وأوضح أن عمليات الحرق العشوائية تؤدي إلى انبعاث غازات سامة تتسبب بتلوث الهواء والتربة والمياه، خاصة في ظل اختلاطها بالمواد السامة الناتجة عن القصف الإسرائيلي المتواصل.
وقال: "تلك الانبعاثات تشكل خطرًا مباشرًا على صحة السكان، إذ تؤدي إلى التهابات حادة في الجهاز التنفسي، مثل التهاب الشعب الهوائية والجيوب الأنفية، وتفاقم حالات الربو، فضلًا عن تراكم جزيئات البلاستيك الدقيقة في الرئتين، ما قد يُحدث التهابات مزمنة تتحول بمرور الوقت إلى أورام سرطانية".
وأشار الربيعي إلى أن التأثير لا يقتصر على الجهاز التنفسي فحسب، بل يمتد ليشمل أمراضًا جلدية والتهابات تحسسية تصيب العين، ما يؤدي إلى مشاكل خطيرة في الرؤية قد تتطور إلى التهابات بكتيرية وفيروسية.
وأضاف: "نستقبل يوميًا عشرات المرضى المصابين بمشكلات في الجهاز التنفسي، ونسجل ارتفاعًا ملحوظًا في حالات الربو، وأخطر ما نواجهه هو فشل التنفس الحاد من النوع الأول، حيث يعاني المرضى من نقص حاد في مستوى الأكسجين وارتفاع في نسبة ثاني أكسيد الكربون، ما يستدعي التدخل الفوري باستخدام أجهزة التنفس الصناعي، التي قد لا تنجح أحيانًا في إنقاذ حياة المريض".
ووفقًا للربيعي، فإنه لو أُعدت دراسة حديثة عن تأثير وجود ورش التكرير العشوائية، تزامنًا مع انبعاثات القصف ودخانه السام، سنجد أن نسبة الوفيات الناجمة عن التلوث البيئي والانبعاثات السامة في غزة خلال العام والنصف الماضيين قد تتجاوز عدد ضحايا القصف المباشر، ما يعكس حجم الكارثة غير المرئية التي تتفاقم يومًا بعد آخر.
كما نبه إلى أن الجلطات الدموية وأمراض الجهاز التنفسي باتت من أبرز أسباب الوفاة الطبيعية في غزة خلال الحرب، مؤكدًا أن الجهاز المناعي لمعظم المرضى أصبح شبه معدوم، نتيجة سوء التغذية ونقص الرعاية الصحية وسط أجواء المجاعة والانهيار البيئي.
واختتم الدكتور الربيعي حديثه بالقول: "هواء غزة ملوث، مركبات تعمل على السولار، وورش تكرير عشوائية، وخضروات ومياه محمّلة بالكبريت والكربون، وتربة ملوثة.. إنها بيئة خصبة للأمراض والموت البطيء".