غزة/ البوابة 24- صفاء كمال:
بعد صرخةٍ مخيفة أطلقتها "روان" على أبناء إخوتها طالبةً منهم الخروج من الخيمة على الفور، غطّت عينيها وانهارت باكية.
لا تعرف الشابة -وعمرها في مطلع العشرين- ما الذي أصابها فجأة. هي أعراض الدورة الشهرية ذاتها، لكنها هذه المرة صعبة للغاية.
تقول لـ"البوابة 24": "منذ أن اندلعت الحرب أعيش كابوسًا اسمه الحيض. لطالما دعوت الله أن يقطعها عني لأنني أعاني فيها الأمرين".
المُدهش أنه، وبعد شهر من اندلاع الحرب، استُجيبت دعوتها: انقطعت عنها الدورة الشهرية لأربعة أشهر متتالية نتيجة التوتر والخوف الشديد، لكن هذا الانقطاع لم يكن نهاية المعاناة، بل بداية لمشكلة صحية أخرى.
تزيد: "ظهرت لدي تكيسات في المبايض، أثرت حالتي الجسدية والنفسية، وقد أخبرتني الطبيبة أنها حالة متكررة في أوساط النساء تحت القصف المستمر".
بالعودة إلى حياة "روان" قبل أن تندلع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، في السابع من أكتوبر/ تشرين أول 2023م، كان موعد الدورة الشهرية ثابتًا، لكن في كل مرة كانت تصاحبه حالة طوارئ تشمل البيت كله.
وتخبرنا: "كانت دورتي الشهرية تعني: الكثير من الشوكولاته. قربة ماء ساخنة. غرفتي المغلقة، وسريري الدافئ، والمغص الذي لم يكن يفارقني ليومين، أعيشه وحدي دون خجل، وبمنتهى الخصوصية"، مستدركةً بحسرة: "لكن اليوم، كل هذا غير موجود. حتى هذا العارض الطبيعي أعيشه بمعاناة، في خيمةٍ ممزقة أحرقت سقفها أشعة الشمس، وصارت بوابتها مشاعًا للجميع".
"إبرة مسكّن"
في غمرة القصف، وتحت الخيام المتهالكة، وسط انعدام الخصوصية وتدهور سبل النظافة والصحة، تخوض نساء غزة معركة صامتة لا يعلم عنها الكثيرون: معركة الدورة الشهرية. ففي الوقت الذي تركز فيه عناوين الأخبار على عدد القتلى والجرحى، تغيب قصص النساء اللاتي يفقدن أبسط حقوقهن في الراحة والكرامة والصحة خلال هذا الظرف البيولوجي الحرج، الذي تحوّل إلى عبءٍ مرهق في ظل الحرب والتهجير والنقص الحاد في الخدمات.
زينة، وعمرها (25 عامًا)، تسرد هي الأخرى تجربتها المؤلمة، وتقول: "أول ما خطر على بالي وقت اندلاع الحرب هو أن موعد دورتي الشهرية قد حان".
وتوضح أن آلامها الشهرية كانت تفوق قدرتها على التحمل، إذ تصاب بسخونة وتشنجات حادة وقيء لا يمكن السيطرة عليه، إضافة إلى التعب والإرهاق الشديد الذي يمنعها من الحركة، وكانت تحتاج عادة إلى إبرة مسكن قوية، وهو الأمر الذي أضحى شبه مستحيل في ظل ظروف النزوح والحصار، وإغلاق "إسرائيل" المعابر، ومنعها إدخال المستهلكات والمستلزمات الصحية.
تعقب: "لا توجد مسكنات للجرحى والمصابين. كيف سأحصل عليها أنا؟ هناك من يستخفّ بوجعي، ويصفني بـ"المدللة"، ويطلب مني التحمل. أحيانًا أظن أن الموت أهون من الاستمرار بهذا الوضع حاليًا".
وتحكي: "لا مياه، لا دواء، لا طعام دسم، لا خصوصية، لا مكان هادئ للنوم"، متابعةً: "خلال دورتي الشهرية، يحتاج جسدي إلى طاقة وسوائل، لكننا بالكاد نجد كوبين من الماء في اليوم بسبب المجاعة".
اقرأ ايضاً:
- غياب "الفوط الصحية".. امرأة في "غزة" يعني "النزف" مرّتين!
- حبوب منع الحمل لوقف الدورة الشهرية.. هذا ما تفعله نساء غزة في الحرب | البوابة 24
حتى "كوب الميرمية"!
ولا تقل قصة ليان قسوةً، رغم تجاوزها الثلاثين. تعيش الشابة في خيمةٍ مزدحمة، وتواجه شهريًا موجة من الألم والخجل والصمت. "لا أستطيع أن أتمدد لأريح ظهري، لا يوجد سرير أو فراش، فقط أرضية قاسية وأناس كثر! حتى كوب الميرمية الذي اعتدت على تحضيره لم يعد ممكنًا، فليس هناك غاز لتسخين الماء، ولا كهرباء" تقول بأسى.
وتضيف: "حتى الفوط الصحية بالكاد أتمكن من توفيرها، وعندما تنقطع من الأسواق -كما هو الحال الآن- أستخدم قطع القماش، التي أضطر لغسلها وإعادة استخدامها مرات جديدة، وهذا زاد من مشاكل الالتهابات النسائية عندي، خصوصًا في ظل نقص المياه المستمر".
ليان تشعر بالعجز كل شهر، ليس بسبب الألم الجسدي وحسب، بل بسبب الإحراج النفسي الذي يلاحقها. فالاستخدام المتكرر للحمّام، والحاجة الملحة للاستحمام في غير الأوقات المحددة في المخيمات، يجعلها محط أنظار واتهام غير مبرر. "أشعر بالخجل من إخبار أحد بأنني أحتاج للحمام مجددًا. لكن ماذا أفعل؟ أنا أنزف. أنا أتألم. لكن لا أحد يفهم".
وتصف ليان كيف أن جسدها خلال الدورة الشهرية يتوق إلى الشوكولاتة والطعام الدسم، وهي احتياجات هرمونية حقيقية، لكنها أصبحت رفاهية لا تُذكر وسط ندرة الغذاء والمياه. "حتى كوب ماء نظيف أصبح حلمًا، فما بالك بما هو أبعد؟".
"حبوب منع الحمل"
تقرير لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين (الأونروا) نُشر في مايو 2024، أكد أن أكثر من 690,000 امرأة وفتاة في غزة يحتجن إلى مستلزمات النظافة الشخصية، بينما لا تتوفر هذه المنتجات الأساسية في الأسواق، وإن وُجدت فهي بأسعار باهظة يصعب الحصول عليها.
وأفادت تقارير أخرى أن بعض النساء لجأن إلى وسائل منع الحمل لتأخير الدورة الشهرية، كحل اضطراري للنجاة من معاناة النظافة والصحة والخصوصية التي تكاد تكون معدومة. تقول ماري أوري بيريو ريفيال، منسقة الطوارئ في منظمة "أطباء بلا حدود": "تضاعفت الطلبات على وسائل منع الحمل أربع مرات، لأن النساء لم يعدن يرغبن في حلول الدورة الشهرية".
وتتفاقم المعاناة بسبب نقص المياه النظيفة والمراحيض، ففي بعض المناطق، يتشارك أكثر من 480 شخصًا مرحاضًا واحدًا، مما يجعل من الصعب على النساء الحفاظ على نظافتهن الشخصية خلال الدورة الشهرية.
وتعد معاناة النساء خلال الدورة الشهرية في غزة جزءًا من صورة أوسع للكارثة الإنسانية التي يعيشها القطاع. تحتاج النساء والفتيات إلى دعم إنساني عاجل، يشمل توفير مستلزمات النظافة الصحية، والمياه النظيفة، والمراحيض، بالإضافة إلى الدعم النفسي والاجتماعي.
تحت هذا الواقع المأساوي، لا يمكن اختزال معاناة المرأة في غزة بعبارة "غياب الفوط الصحية". الأمر يتجاوز ذلك إلى الحرمان من الراحة، والأمان، والرعاية الطبية، والماء، والغذاء، وحتى الخصوصية. إنها أزمة مكتملة الأركان، لا تقل أهمية عن قصف البيوت والمستشفيات، بل هي صامتة وخفية، لا تُرصد بالكاميرات لكنها تنهش الكرامة الإنسانية بصمت.
الكرامة لا تُجتَزأ
وتؤكد الأخصائية النفسية عبير حسين أن الأوضاع القاسية التي تعيشها النساء في غزة خلال الحرب، تترك أثرًا بالغًا على صحتهن النفسية والجسدية، لا سيما فيما يتعلق بالدورة الشهرية.
وتشير إلى أن النزوح المستمر، والضغط النفسي الناتج عن القصف، والخوف والتوتر المزمن، كلها عوامل تؤدي إلى اضطرابات هرمونية ومزاجية، تزيد من حدة أعراضها لتصل إلى الاكتئاب، والقلق، بالإضافة إلى الآلام الجسدية التي تسبق أو ترافق الدورة الشهرية.
وتوضح حسين أن غياب الخصوصية في مراكز الإيواء المكتظة، مثل الخيام، يضاعف من معاناة النساء، حيث يصعب عليهن التعامل بحرية مع احتياجاتهن البيولوجية، ملفتةً إلى أن نقص الفوط الصحية يدفع الكثير من النساء إلى استخدام بدائل غير آمنة كالقماش المعاد استخدامه، ما يعرّضهن لمخاطر صحية جسيمة في ظل انعدام المياه النظيفة والمرافق الصحية المناسبة.
وتضيف: "بعض النساء يضطررن إلى اللجوء لحبوب تأخير الدورة الشهرية كحل اضطراري لتجنب الإحراج أو صعوبة الحفاظ على النظافة، لكنها تحذر من مخاطرها إذا تمت بشكل عشوائي وبدون إشراف طبي، خصوصًا إذا طالت المدة أو تكررت".
وتشدد عبير حسين على أن النساء والفتيات في غزة يحتجن إلى دعم نفسي واجتماعي متكامل، بالإضافة إلى توفير مستلزمات النظافة والماء النظيف وبيئة تضمن لهن الخصوصية، مؤكدةً أن الحفاظ على كرامة النساء وصحتهن لا ينبغي أن يكون أمرًا ثانويًا في أوقات الكوارث، بل هو واجب إنساني عاجل لا يقل أهمية عن الغذاء والدواء.
وتختم بالقول: "النساء في غزة لا يحتجن خلال الدورة الشهرية فقط إلى فوط صحية، بل إلى مكان آمن، ودعم نفسي، ومساحة تحترم خصوصيتهن. الكرامة لا تتجزأ".